مهجّرو الأزمة... عائلات تلتحف السماء وتفترش الأرض!
عندما تجد عوائل بشيبها وشبابها، بنسائها وأطفالها تفترش الأرض وتلتحف السماء، تقف أمام هذا المشهد المؤلم مذهولاً لتحس أن قلبك يعصر دماً وتتساءل: هل أنا في حلم أم في خيال؟ هل ما أشاهده حقيقي أم مشهد في فانتازيا تلفزيونية؟ هل من المعقول أن يكون هو هذا مصير الشعب السوري الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل رفعة سورية وعزة سورية صوناً للأرض وكرامتها؟!.
نعم ما شاهدناه هو الحقيقة ذاتها، هي المكافأة التي كان ينتظرها الشعب السوري لصموده سنوات وسنوات وتحمله شتى أنواع الحصار من دول الغرب ومن لف لفها، ولوقوفه بوجه المخطط الأمريكي الصهيوني، وأخيراً جاءته المكافأة فشرد ونزح من مدنه وقراه وخرج وترك كل شيء وراءه للمجهول، للقصف والدمار.
وكان لـ«قاسيون» وقفة مع البعض من أولئك الذين افترشوا الأرض، حيث قالت السيدة (م.أ.س): «منذ شهرين، أنا وأبنتي البالغة من العمر /21/ ربيعاً، ننتقل من مدرسة إلى أخرى، قضينا قبلها ليالي عديدة في أحدى حدائق دمشق.. تصور أن ابنتي طالبة جامعية سنة ثالثة وأنا أخاف عليها، لقد فقدت والدي البالغ من العمر سبعين عاماً بعد أن قتلوه، أقسم بأنني لم أستطع المشاركة في تشييع جثمانه.. إلى هذا الحد وصلت الأمور في دير الزور؛ قصف ودمار ومسلحون، وأقول بصراحة لقد وقعنا بين نارين نار المسلحين ونار الدولة»، هكذا قالت والدمع ينزل على وجنتيها: «أدفع عمري لأجل أن أعرف أين قبر والدي، الآن لا مأوى لدي ولا شيء نبيعه كي نعيش به».
أما اليتم لأبويه (أ.س)، والذي صحا من نومه على وقع ما سمع من كلام وارتفاع الأصوات قال: «وجدت باصاً، والناس تصعد إليه، فصعدت ، لا أدري إلى أين كان يتجه المهم أن أخلص من الموت.. أنا يتيم الأبوين وأعيش في بيت جدي المتزوج من زوجة أخرى بعد وفاة جدتي، زوجته ليست أم والدي وقد كنت أهرب من البيت لأنها تطالبني بأن أجلب لهم النقود بأي طريقة وإلا الضرب والحرمان من الأكل كان مصيري، أصبحت أتمنى العودة إليها الآن أمام هذا الموت الذي يحاصرني، أنا ليس لي علاقة لا بمسلحين ولا غيرهم»!.
السيد (م.ش) متزوج وله ثلاثة أولاد أكبرهم يبلغ عشر سنوات، قال: «كما ترى يا أخي من حديقة إلى أخرى، لقد تم طردنا من قبل الشرطة وجئنا إلى هذه الحديقة منذ ليلتين، حاولنا أن نجد لنا مكاناً في المدارس لكنها كلها مكتظة بالنازحين، وخاصة مدارس البرامكة والمزة، ثم قيل لنا سوف يخرجوننا من المدارس!.. الآن نحن ما نزال في فصل الصيف غداً في الشتاء أين نذهب؟ إلى أي مأوى؟ لماذا الدولة صامتة ولم تحرك ساكناً؟ ألسنا بشراً؟ ألسنا سوريين، أم نحن أجانب؟ لماذا لم ينتهوا من طرد المسلحين من الدير؟ لقد أصبح الشك يساورنا بأن الطرفين قد تآمروا علينا وعلى الدير كله!».
السيد (ف.م): «لدي أربعة أطفال، ولدين وابنتين، من شهرين تركت بيتي في دير الزور بعد أن سقطت إحدى القذائف عليه، الحمد لله لم يصب أحد منا، لكن لم نعد قادرين على البقاء، والله كيف وصلنا دمشق لا ندري، هو حلم أم يقظة، ولكن لا نعلم أيضاً إلى متى نبقى مشردين، هل هذا الشعب أصبح عند الطرفين (المسلحين والنظام) مثل الغنم؟.. يا أخي حتى الغنم لديهم بيت».
السيد (م.ح) أعرب عن قناعته بأن «ما حصل في سورية من احتجاج وتسليح ومسلحين هو ناتج طبيعي لممارسات الأمن، والتي مازالت كما هي رغم كل ما حصل للبلد، إضافة إلى حجم الفساد الذي أصبح مقونناً في جميع مفاصل الدولة، أنا منذ شهر ونصف نزحت وعائلتي من دير الزور، ولو لم تكن حالتي المادية ميسورة نوعاً ما لما استطعت أن استـأجر بيتاً، ولكان مصيري في أحد الشوارع أو إحدى الحدائق مثل الكثيرين»، وعندما سألته عن الحل حسب رأيه أجاب: «الحل بنزع السلاح من المسلحين بأية طريقة، ووقف شلال الدم ثم الذهاب إلى طاولة الحوار، أمامنا طريقين لا ثالث لهما، إما الدمار وإما الحوارـ. طبعاً مع الإفراج عن جميع المعتقلين والموقوفين»..
بدوره، قال (ر.ن): «ماذا عساني أن أقول؟ كل هذا الدمار وهذا الدم الذي يلون الشوارع، وهذا الغضب الجماهيري، أنا اعتبر ما حصل نتيجة حتمية لممارسات رعناء!.. تصور كل هذا ومازال الأمن يستهتر بأرواح الناس، يا أخي حتى بأعراضهم، نحن حتماً ضد حمل السلاح نحن مع الجيش فقط، يجب حل الأجهزة الأمنية أو تحجيم عملها وتقليص صلاحياتها، مثلما تريدون سموها، كفى.. ما ذنبي أنا وعائلتي، وخاصة أمي المريضة، كي نترك منزلنا وتتشرد؟ نحن مشردون الآن.. لماذا القصف العشوائي؟ لماذا لا يضربون المسلحين فقط؟ أنا اقولها بصراحة والله الأمن يعرف كل أماكن المسلحين فلماذا يضربنا نحن ويقصفنا ويترك أماكن تواجدهم على حالها؟ إن في الأمر (إنّ).. ياأخي».
وبالعودة إلى (ف.م)، تابع متحدثاً عن الحل حيث بيّن: «منذ ثلاثة اشهر أنا أعرف عدد من المتظاهرين المسلحين وأوكد المسلحين ذهبوا لتسليم أنفسهم بعد أن سمعوا بأن أي شخص يقوم بتسليم نفسه ولم تكن يداه ملطخة بالدماء سيفرج عنه خلال ساعات، يا أخي الأن مضى على هؤلاء ثلاثة أشهر ولم يعرف أحد مكان توقيفهم، لا ذويهم ولا غير ذويهم، الثقة أصبحت معدومة بين الدولة والمواطن، وهي منذ زمان معدومة، لكن الآن بشكل أكبر، يجب أن تملك الدولة المصداقية كي يستجيب الناس لها، وكي نشجعهم، هذا بداية الحل وأخيراً نذهب إلى الحوار بالتفاهم كل شيء ممكن أمام يبقى القصف العشوائي والموت الذي أصبح بالجملة هذا لا يوصلنا إلى أي حل».
(س.ن) أضاف: «مضى على نزوحي إلى دمشق ثلاثة أشهر، هربت من الدمار والقتل والخراب، أنا اسأل كيف يتابع أبناؤنا دراستهم ومتى سيسجل الناجحون بالجامعات؟ أنا أقولها بصراحة: هناك ممارسات أمنية خاطئة استفزت الناس كلهم، وأضف إلى ذلك التهميش لمحافظة دير الزور كلها بمناطقها وريفها، هذا التهميش متعمد حسب ما أعتقد، لا معامل لا منشآت لا طرقات، البطالة قاتلة، تصور أبناء محافظة دير الزور لم يوظفوهم في حقول النفط التي تعج بها المحافظة! قل لي ما هي النسبة الموظفة منهم في هذا القطاع؟ هذه نتائج التهميش، وهي طبيعية.. طبعاً أنا ضد العمل المسلح، وضد المسلحين، وضد القتل من الطرفين، ويجب أن يبقى سلاح الجيش فقط لا سلاح غيره، أنا اسألك لماذا المسلحون يسرحون ويمرحون؟ ما معنى أن يكون هناك من يعتبرونهم وجهاء وهم صلة وصل بين المسلحين والأجهزة الأمنية والكل يقبض من هناك وهناك؟ نريد حلاً سريعاً كي نعود إلى ديارنا.. إلى بيوتنا».
هذا غيض من فيض ما سمعناه، يحز بالنفس ويجعلك تعيش في كابوس قاتل، نحن في «قاسيون» نطالب برعاية هؤلاء المهجرين وتأمين المسكن اللائق لهم، وتوفير الغذاء لهم ومساعدة الجميع بلا استثناء.. والوقوف مطولاً عند كلامهم الواضح والصريح، والذي إن دل على أي شيء فهو يدل على معاناة ليست وليدة اليوم فقط، بل لها جذورها في المجتمع الديري من أقصى المحافظة إلى أقصاها.