خبزنا والملح
احتضنت الإذاعة السورية انطلاق صوت المطربة فيروز وفتحت أمامه المدى الواسع ليجد سبيله إلى آذان الملايين، فتتباين حوله الأذواق، وبخاصة أن الذوق في الأدب والفن ملكة يدرك بها جمال وسحر هذين الإبداعين الإنسانيين، وهذا ما حصل فعلاً على أرض الواقع في أمسية حميمة جمعت أسرتي حول «الراديو» ونحن نستمع إلى أغنية فيروز:
«دقت على صدري وقالت لي افتحوا تا شوف قلبي إن كان بعدو مطرحو»
فهتف أبي بحماسة: يا للصوت الرائع! ووجه حديثه نحوي بصفتي ابنه الأكبر سائلاً: ما رأيك بهذا الصوت؟ ولما جاء جوابي «فاتراً» عقب قائلاً: «غشيم... بدك كتير حتى تفهم بالأصوات وجمالها!».. ومر قرابة عامين، وفي ليلة ليلاء من ليالي سجن المزة العسكري عام 1959، وبعد حفلة تعذيب «مرتبة» شملت الفلقة والوقوف تحت صنبور ماء الدوش البارد في الحمام وتغطيس الرأس في مياه البحرة الصغيرة في الممشى قرب الزنزانات، بالإضافة إلى التعذيب بالتيار الكهربائي.. والضرب والركل والشتائم من تحت الزنار «ونازل».. وعندما أعادوني إلى الزنزانة كان الرفيق عبد الله أبو شعر ينتظرني ليلفني بالبطانيات مخففاً عني قدر المستطاع آلام التعذيب.. وهكذا كانت حالتنا معاً، فعندما يؤخذ هو إلى التحقيق والتعذيب كنت بدوري أترقب عودته لأخفف من معاناته فهذا كما يقال: «قدرنا».
إن أخبار التعذيب التي تعرض لها الرفاق في مراكز الأمن والسجون تحتاج إلى مجلدات ومجلدات... فكل دقيقة قضاها الرفاق تحت التعذيب وصمة عار في جبين كل نظام القهر الوحشي الذي يستبيح إنسانية الإنسان، وهو أخس وأحقر وأكلب تعامل في عالم البشر يمارسه الجلادون وبمستويات متعددة بدءاً من عنصر يستخدم كأداة إلى محركين وموجهين ومشرفين كبار!! علت مراكزهم واستشرس افتراسهم..
المهم ما إن هدأ اضطرابي قليلاً حتى التقطت أذناي صوت فيروز المنبعث من راديو ترانزستور لأحد رقباء الشرطة العسكرية بالقرب من نافذة الزنزانة، منساباً كنسمة صيف منعشة:
سنرجع يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا
وكان التغيير والتبدل الشامل.. وأحسست الكلمات تمس أعمق أعماق مشاعري، فتبعث فيها الرجاء والأمل، وتسكب في الأعصاب شحنة الإرادة والعزيمة، فأجد نفسي إنساناً جديداً يتأهب للنزال وهو مترع بالثقة والأمل.. وغدت فيروز منذ تلك اللحظة ملء القلب والخيال، وليس غريباً بعدها أن تلهمني العديد من القصائد.. ومنها على سبيل المثال:
إن شدوت الآهَ فالأضلاعُ آهُ
أو ذكرت الليلَ... فالليلُ انتباهُ
صوتك الشادي أضاميم إنتشاء
في فمي.. في دمي.. يحدو صداه
مثل رعشات الندى أحيت بأرضي
قدسها.. ردت هوى ضلت خطاه
أنت موال نشيد الكون ناغى
خبزنا والملح.. أشجانا شجاه
أنت يا فيروز قيثار خلودٍ
رنَّ في محراب قلبي وسباه
وختاماً استميح فيروز أن تأذن لي.. فالضرورات تبيح المحظورات.. فأشير إلى خطأ لغوي وقع في الزاوية الماضية «الكرامة» في البيت الأول هو:
زعم الفرات... والصحيح هو: زعم الغزاة، لذا اقتضى التنويه والاعتذار.