من الذاكرة: الكرامة

من الذاكرة: الكرامة

مما رسخ في ذهني ووجداني وأنا فتى يافع قول أمي مخاطبة أبي وقد ألمت به الأحزان والهموم جراء تعرض وضعه المعاشي لصعوبة خانقة... وكثيراً ما كان يتعرض لمثل ذلك: «ما بعد الضيق إلا الفرج».. وبخاصة حين بدأت أعي معنى «الصعوبة»، ومن ثم جاءت مرحلة الوعي السياسي والعلمي لتؤكد في العقل والقلب مشروعية الإحساس بالأمل والتفاؤل كحقيقة تمتطي جناح الخيال، وقد صغت هذا الإحساس شعراً عام 1967، عام نكسة بل هزيمة الخامس من حزيران التي كانت من أشد الأحداث مرارة وألماً، حين استطاع العدو الصهيوني مدعماً أمريكياً وغربياً ورجعياً عربياً من احتلال الجولان والضفة الغربية وغزة وسيناء وأجزاء من جنوب لبنان.. تلك الهزيمة المنكرة التي زلزلت المنطقة بكاملها، ليخيم اليأس والإحباط بظلاله الخانقة على صدور الناس وأنفاسهم، وعلى الرغم من ذلك الزلزال قلت:

وتبقى لنا بسمة... رغم أنف الشقاء

وتبقى لنا بسمة... تسبيح الشفاه

وأقصوصة في حنايا العشية

تشيع الهوى في العيون الفتية

وحرف جميل يغني الحياة الهنية

يهز الفؤاد كنبض الأصيل

بظل النهار المسافر

وأقصوصتي التي تنتعش في الذاكرة اليوم تاريخها العام الدراسي 67 ــ 1968 وميدانها بلدة البصيرة التي تتوسد ملتقى نهر الخابور بنهر الفرات... وبدايتها يوم ركبت الباص الصغير من مدينة دير الزور إلى البصيرة بدء العام الدراسي، وكان يسوق الباص جندي سابق التقيته عام 1957 في الكتيبة السادسة بسلاح المدرعات واسمه البدوي. وفي الباص جمعني المقعد مع معلم من دير الزور يعلم في ابتدائية البصيرة واسمه علي صالح المشعان، وكان التعارف الذي تحول إلى صداقة صادقة وأخوة مستمرة حتى يومنا الحاضر وكان من المهتمين بالعمل السياسي الوطني وما زال، وأولاده- كما أعلم- مثله وقد استشهد أحدهم وهو الرفيق زهير علي المشعان عضو حزب الإرادة الشعبية في 10/1/2012، وهو أحد نشطاء الحراك الشعبي السلمي، ولقطة استشهاده موثقة بالصوت والصورة، كما سجن بقية أولاده الخمسة وتعرض هو أيضاً للسجن لأسباب سياسية عدة مرات آخرها منذ ثلاثة أشهر بسبب مشاركة أولاده في الحراك الشعبي السلمي في دير الزور.

وفي بيته في الدير مساء يوم 22 آذار 1968 كنا نتابع أخبار معركة «الكرامة» التي جرت في اليوم السابق... تلك المعركة التي تفجرت إثر اقتحام الجيش الصهيوني نهر الأردن من عدة محاور في محاولة لاحتلال الضفة الشرقية، وتصدت له القوات الأردنية على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن إلى جنوب البحر الميت... وكانت الملحمة الأسطورية في بلدة «الكرامة» التي سطرت فيها المقاومة الباسلة المتمثلة بالفدائيين الفلسطينيين والجنود الأردنيين وسكان البلدة صفحة ناصعة في جبين الصمود والعزة... وحسمت خلال خمسين دقيقة مجيدة من الالتحام بالسلاح الأبيض المعركة التي استمرت ست عشرة ساعة دامية أجبرت العدو الصهيوني على الانسحاب والتقهقر المخزي بعد أن تكبد خسائر فادحة 250 قتيلاً و450 جريحاً وتدمير 88 آلية حربية بينها سبع وعشرون دبابة وطائرة واحدة... تلك المعركة التي أحيت الأمل وردت الروح وشحذت العزائم... ألهمتني قصيدة «الكرامة» التي ألقيتها فيما بعد خلال الاحتفال بعيد الفلاحين في قرية أبو حمام، ومن أبياتها:

زعم الفرات: على الفرات رحالهم

تلقى، وعند ضفاف نيل كنانتي

فادفن ــ أخي ــ في صدرهم أطماعهم

وأقحم ولا ترهب ظلام النكسة

إنا رضينا النار تحرق وجهنا

في حرب طاعون وفاشستية

وطني أعيدك من يمين خائن

مسنونة أنيابه للردة

فعلى الخليج ممالك لمشايخ

غرباء عن شعبي وعن قوميتي

قل للقصور ومن بها من فاسق

يجتر في نهم لحوم العفة

ويطوف بالبيت العتيق مخاتلاً

يقضي «المناسك» يا هوان الكعبة

فقفي كما تقضي الرجولة أمتي

فعلى «الكرامة » لن تداس كرامتي