المدارس الخاصة.. والاستثمار في العنصر البشري
سيطر التعليم الحكومي المجاني على العملية التعليمية في البلاد لسنوات الطويلة، وكان دور المدارس الخاصة خلال تلك الحقبة ينحصر تقريباً في استيعاب التلاميذ الذين لا تستوعبهم المدارس الحكومية لتردي مستواهم التعليمي، إضافة إلى المدارس الخاصة المرتبطة بالمراكز الثقافية الأجنبية، والتي كانت محصورة بفئة قليلة من أغنى أغنياء البلاد. ومع بداية الألفية الثالثة، وبحجة تردي التعليم الرسمي وضرورة تطوير «الاستثمار في العنصر البشري»، وفي غمرة الترويج لسياسة انفتاحٍ غائبة المعالم وبعيدة عن التخطيط المنهجي، بدأت الموجة العارمة للمدارس الخاصة، والتي تم التمهيد لها بإصدار تشريعات تنظمها وتحمي وجودها، كما تم الترويج لها بوصفها الحل لمشكلات البلاد التعليمية، والرافد المستقبلي الأهم للوضع التعليمي في البلاد، فما هي النتائج الأولية لهذه التجربة؟
إذا كان صحيحاً أنه من المبكر تقييم النتائج النهائية للتجربة لأنها لم تأخذ المدى الزمني اللازم، فإن ثمة إشارات تفيد بأن هذه المدارس لم تقدم على صعيد المستوى التعليمي شيئاً يذكر، باستثناء تطوير قدرة بعض تلاميذها على تكلم اللغات الأجنبية، وهو إنجاز ضئيل لا يبرر بحد ذاته هذا الاتجاه نحو المدارس الخاصة. ومن ناحية أخرى فإن الواضح أن المسألة تحولت إلى باب جديد من أبواب الكسب فقط، إذ تتكاثر المدارس الخاصة بشكل فوضوي، دون أن تقدم الحد الأدنى المطلوب لعملية تعليمية جيدة، فأغلبها فتح في منازل عادية لا نفهم كيف تم الترخيص لها، ويتم حشر أعداد من الطلاب في صفوفها يزيد على أعدادهم في المدارس الرسمية، أما المدارس ذات الأبنية الكبيرة اللائقة، فإن أسعارها الجنونية تجعلها في متناول شريحة لا تتعدى 5% من السوريين، وهذا يعني أن أثرها في العملية التعليمية بفرض وجوده هو أثر لا يذكر.
الحقيقة أن جذر المشكلة يتمثل في الحجة التي تم تبرير دعم المدارس الخاصة بها، ذلك أن الجهات الرسمية تذرعت بفشل وتراجع التعليم الحكومي لإطلاق يد المدارس الخاصة، مع أنه كان على الجهات الحكومية أن تعمل بشكل جدي على تطوير التعليم الرسمي، ورفده بالكوادر اللازمة للنهوض بمستواه، وتطوير مناهجه بشكل دوري وسريع، بدل الانشغال بمنح تراخيص لا أول لها ولا آخر للمدارس الخاصة، ولكن الأهم أن التعليم ليس قطاعاً خدمياً يمكن أن يكون محل مضاربة تجارية، كما أنه لا يجوز تسعير المستوى التعليمي أو تقييمه بالمال، لأنه يجب أن يرتبط بخطة شاملة على أعلى المستويات، لها أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهكذا فإن تطوير التعليم لا يمكن أن يتم من خلال القطاع الخاص، بل من خلال خطط منهجية على أعلى المستويات يتم تطبيقها في المدارس الحكومية، ويتم إلزام المدارس الخاصة بها، لبناء أجيال تتمكن من النهوض بالبلاد.
لا تتعلق المسألة هنا بموقف أيديولوجي من القطاع الخاص، بقدر ما تتعلق بمستوى فهم القائمين على العملية التعليمية لدورهم من جهة، ولدور القطاع الخاص من جهة أخرى، لأن مفهوم «الاستثمار في العنصر البشري» يعني استخدام الثروة في تطوير العنصر البشري ليعاد استثماره في تطوير البلاد وبنائها وتحصينها، إلا أن ما يجري على أرض الواقع هو استخدام العنصر البشري في خدمة ثروات المستثمرين، وهو ما يعني في نهاية المطاف أن هناك من يعلق الاتجاه المحموم نحو الخصخصة، على شماعة فشله في إدارة ثروات البلاد، وعلى رأسها الثروة البشرية التي هي الحامل الفعلي لأي نهوض مفترض.