الناس والدستور.. والقانون
إذا كانت حياة الناس وعلاقاتهم تنشئ الضرورات التشريعية، فإن نصوص القوانين يكون لها أثر واضح إما في دفع الناس في طريق التطور، وإما في عرقلة هذا المسار.
وكذلك فإن المراقبة المستمرة من خلال تطبيق أي قانون في الحياة، ومعرفة صداه في المجتمع وتعديله دائماً بما يتوافق مع تطلعات الناس وحاجاتهم، تؤدي حتماً إلى الهدوء الاجتماعي. هذا بالنسبة للقوانين.. فمن يضع هذه القوانين؟! وما هي الضوابط عند وضعها؟ وما هي الأسس التي تعتمدها؟
كل هذا يقودنا إلى مناقشة الأساس وهو الدستور، والتنظيم الدستوري الذي هو الأساس الأول لتقييد سيادة الدولة، وضمان خضوعها للقانون. إن القاسم المشترك بين كل دساتير العالم تقريباً هو أن الدستور يجب أن يتضمن أحكاماً واضحة وصريحة فيما يتعلق بحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية، وبالطريقة القضائية المرسومة لحمايتها، وبالتزام الدولة بضمانتها ورعايتها، وبأنه لا يمكن تفسير أي من هذه الحقوق والحريات على أنه يعطيها أو يعطي أحدى سلطاتها حق إصدار تشريع أو قانون أو ممارسة أي إجراء يرمي إلى الحد من مضمون هذه الحقوق أو مصادرتها أو عرقلة ممارستها.
يجب أن يضمن الدستور للمواطن حقه في حرية الرأي والتعبير والصحافة، وأن يحظر الدستور تضييق هذه الحرية بنص أو مرسوم أو لائحة أو قانون أو تعميم أو توجيه.. كما يجب أن يضمن الدستور حرية الفكر والاعتقاد والعبادة، وأن يضمن لكل مواطن حياته وحريته وكرامته وأمنه الشخصي واطمئنانه، فلا يوقف ولا يحبس ولا يعتقل ولو على سبيل الاحتياط، ولا تخرق حرية منزله، ولا ينفى ولا يهجر ولا يجرد من جنسيته أو أي حق من حقوقه إلا بناءً على قرار قضائي صدر استناداً إلى نص قانوني تم تفسيره في أضيق الحدود.
وباعتبار أن أولوية الحق لا يمكن أن تسود إلا في إطار نظام تمثيلي ديمقراطي، فيجب أن يتضمن الدستور أحكاماً واضحة تؤكد أن السلطة للشعب الحقيقية، يمارسها عن طريق ممثلين له يختارهم بانتخابات دورية على كافة المستويات والمناصب بانتخابات حرة نزيهة، ويكونون مسؤولين أمام الشعب، كما يجب أن تضمن هذه الانتخابات قانوناً للانتخاب عصرياً وشفافاً، يوصل من يستحق فعلاً إلى أي مركز أو هيئة، كما يجب أيضاً وأيضاً أن يضمن الدستور حق المواطنين في تكوين أحزابهم السياسية ونقاباتهم والجمعيات الأهلية التي لا تقوم على أسس ضيقة طائفية أو ما شابه.... وأن تستطيع إبداء رايها بحرية في سياسة الدولة أو الحكومة وذلك في إطار الديمقراطية الحقيقية ومبادئ الحق.
ومن الأمور الهامة التي يجب ضمانها دستورياً، وأن توضع الضمانات لها ولتطبيقها «مبدأ فصل السلطات»، وذلك لتوفير الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة، ولتأمين رد كل سلطة إلى حدود اختصاصها دون أي تجاوز، ومن أجل تحقيق سيادة الحق والقانون على تصرفات وممارسات الدولة وسلطاتها وأجهزتها المختلفة.. إن المادة /27/ من الدستور السوري تقول: «يمارس المواطنون حقوقهم، ويتمتعون بحرياتهم وفقاً للقانون».
أن عبارة وفقاً للقانون الواردة في نهاية هذه المادة الدستورية حددت أن التمتع بالحرية وممارسة الحق للمواطن محددة وفقاً لمعيار القانون، لذلك يجب أن تتوافق القوانين التي ستوضع لاحقاً مع الدستور، ويفترض لها أن تحقق انسجاماً معه، مثل قانون الانتخابات وقانون الأحزاب و... و... إلخ، يجب أن تتوافق مع الدستور ومع المواثيق الدولية التي أجمعت وأكدت عليها، وعلى رأسها المادة /19/ من حقوق الإنسان التي أعلنتها الأمم المتحدة والتي تنص على:
«لكل شخص الحق في الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء بدون أي تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقييد بالحدود الجغرافية».
إن أحد المعايير العالمية لتصنيف الدولة والأنظمة والشعوب بين متمدنة ومتقدمة أو متخلفة هو سلوك هذه الدول والأنظمة تجاه حقوق الإنسان على الصعيدين الوطني والدولي، لكن من المؤسف والمحزن في آن معاً أن تكون كل البلدان العربية أعضاء في الأمم المتحدة وقد صادقت على مثياقها وعلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات اللاحقة به، ولا تزال قضية الحقوق والحريات في معظمها تلاقي الإهمال والانتهاك... ولا يزال المواطن في أغلب تلك الدول عرضة لكافة وسائل الكتب والمصادرة والقمع والانتهاك.
ومع إدراكنا العميق للأخطار الصهيونية والإمبريالية، وخاصة الأمريكية، ومخططاتها واستغلالها لموضوعة حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية.. فلا يجوز أن نتجاهل أن ما واجهته وتواجهه قضية الحق والحرية للمواطن من اعتداء وانتهاك.. كانت وما تزال من العوامل الرئيسية التي شلت فعالية الجماهير، وحجبت رقابتها المشروعة على الأنظمة وسياساتها ومؤسساتها وأجهزتها وفسادها، الأمر الذي ساعد في تكريس التعسف والتسلط والفساد والمحسوبية، وجعلها في النتيجة عاجزة أحياناً عن القيام بواجباتها الوطنية والإنسانية، وخاصة قضية تحرير الأراضي المحتلة من قبل الصهاينة.. لهذا يجب أن تدرك الأنظمة- كل الأنظمة- أن المواطن دائماً هو السلاح الأقوى لوطنه وحمايته، وهو السلاح في معارك التحرير والتقدم والبناء وحماية الوطن من أية أخطار، وما لم يطمئن المواطن.. ويمارس حريته... ويتمتع بحقوقه.. وبالمساواة وحفظ كرامته.. فسيبقى أي انجاز مهما كبر وشمخ سراباً خادعاً لا يلبث أن يتلاشى ويزول.
ولابد أن تؤمن كل الأنظمة بأن احترام حقوق الشعب هو السلاح الوحيد في أية معركة للتحرير أو الدفاع عن الوطن أو حماية استقلاله تجاه أي تدخل...
إن الاعتماد على الشعب الحر المطمئن إلى حقوقه وأمانيه الوطنية هو السلاح الوحيد والدائم والفعال ضد الصهيونية والإمبريالية وحلفائهم الرجعيين والفاسدين.. هذا هو طريق الحق المصان بالدستور الذي يقونن لاحقاً والذي يؤدي إلى الحرية الحقيقية... وبذلك يكون حفاظنا حقاً على كرامة الوطن والمواطن وحماية وطننا.