نقص المازوت والغاز وتفاقم الإنهاك الاجتماعي.... وماذا بعد؟
تشهد المحافظات السورية جميعها دون استثناء موجات حادة من الاستياء الاجتماعي العارم، أشد من موجات الصقيع التي ضربت البلاد باكراً، نتيجة النقص الحاد بمادتي المازوت والغاز وسوء توزيعهما.. وما يزال أمل الناس معلقاً أو تائهاً بين تصريحات وتطمينات مسؤولي وزارة النفط بأن المادة موجودة ولا صحة لما يشاع من نقص وتقصير في التوزيع، وبين ما يحدث على الأرض من فوضى وارتفاع أسعار المادتين وندرتهما.. وبعيداً عن التصريحات الرسمية يظهر الواقع في مختلف المحافظات طوابير من البشر تمتد في كثير من الأحيان أرتالاً طويلة تتجاوز الـ(500 م) في بعض الأحيان، تبدو على وجوهم المكشرة الغاضبة علامات الامتعاض واليأس وكأنهم أمام مشرحة، وعند حصول أحدهم على كمية (40 ليتر) يفرح وكأنه بيوم زفافه، مع مسحة قلق لما سيفعله لاحقاً إذا نفدت الكمية!!.
ظروف وأسباب
اليوم، ومع تفاقم الأزمة الوطنية، تأتي أزمة المازوت وخاصة في المحافظات التي تشهد حركة احتجاجات واسعة منذ أكثر من ثمانية أشهر، لتضع الناس جميعاً، معارضين ومؤيدين، بمواجهة البرد القارس وتعثر الحصول على الخدمات الأساسية.. وهذا الأمر يقلق الجميع، بمن فيهم الكثير من أصحاب الفعاليات الصناعية والحرفية والمزارعين، وقبل أولئك المواطنون الأكثر فقراً الذين هم كغيرهم بحاجة المادة للتدفئة مع آمال أضعف.. كل ذلك يجري بينما تقوم وسائل الإعلام المحلية (المواكبة للأحداث ساعة بساعة وعلى مدار اليوم) بتناول أزمة المازوت بشكل سطحي، وتتعامل معها كأنها غير موجودة، مؤكدة أن المحطات تؤمن الكميات اللازمة للمواطنين كافة، معرضة بذلك عن أقلام صحافييها ومراسليها وكاميراتهم، ومتعامية عن أرتال السرافيس والشاحنات وأرتال المواطنين.. والحقيقة أن الصمت لم يعد ينفع للملمة الأزمة أو التعامي عنها، والمطلوب خطوات جريئة وعملية لمواجهة هذه الأزمة وتداعياتها الخطيرة المحتملة، وهذا برسم الحكومة ليكون على رأس أولوياتها للمعالجة السريعة.. وقبل فوات الأوان!.
لقد ذكر لنا الكثير من المواطنين القادمين من محافظات مختلفة أن الأمر عندهم لا يختلف عن (الآخرين) بشيء، وبأنهم شاهدوا في طريقهم أكثر المحطات وقد غصت بحشود كبيرة من الناس وطوابير طويلة من السرافيس والآليات الزراعية والخدمية التي تصطف بقصد الحصول على المادة. والسؤال هنا: بما أن المسؤولين يعلمون، أو يمكن أن يقدروا سلفاً حجم الطلب على مادة المازوت المتزايدة في كل عام وخاصة منذ رفع الدعم عن هذه المادة وتقلب أسعارها وتدرجها حتى وصلت إلى (15 ليرة) لليتر، فلماذا لم يبادروا إلى حل؟ ولماذا يصرون في ظل هذه الظروف العصيبة أن يرموا تقصيرهم في دلو التهريب؟ لمَ لم يضعوا في حساباتهم ومكاتب تخطيطهم حاجة الناس الفعلية؟ أم أن أولئك الجهابذة غير قادرين على أداء مهامهم بصورة مخلصة حتى وقت الأزمات العامة، وخصوصاً في هذا العام المختلف عما سواه؟ كنا نسمع منذ أن ثبت سعر المادة على ما هو عليه بأنه سيتم معالجة التهريب وتقدير الكميات عبر البطاقات الذكية، وحتى الآن لم نشهد أية بطاقات إلا بطاقات خنق المواطن ودوس كرامته، بل وبتنا على يقين بأن سلطة التهريب أقوى من سلطات الحكومة وصلاحياتها.
مقدمات تنذر بالسوء!
في مقدمات الأزمة نتذكر ما ذكرته في وقت سابق بعض المواقع ووسائل الإعلام المحلية عن مديرية الجمارك بأن تهريب مادة المازوت بعد نزول سعره وصلت إلى (23 ألف ليتر) في الشهر السادس و(36 ألف ليتر) وأكثر في بداية الشهر السابع، وكان يمكن الملاحظة من حديث (الجمركيين) بأنهم قادرون على ضبط عمليات التهريب.. فكيف يمكن حل المشكلة إذاً؟ وبما إن خزانات الشركة العامة للمحروقات (سادكوب) ممتلئة حسب زعم المسؤولين اليوم، ولا يوجد أي غمة بونات أو شيكات تجعل السعر يرتفع كما كل عام، وأن المازوت يقدم للمحطات بكميات إضافية متوقعة نسبة الإقبال عليه هذا العام، وأنه قد وضع ما يلزم لتلبية هذا الطلب قبل دخول فصل الشتاء، فما تبرير ما يجري إذاً؟ لم يصّر مسؤولو المحروقات على نكران الواقع؟ الآن، والناس وحدهم من يدفع الضريبة، وهم من ينتظر الصهاريج أمام المحطات لساعات طويلة، فيما المسؤولون غارقون في فسادهم وتمرير ما أمكنهم من تحت الطاولة، ولا يشعرون بإحساس المواطنين المليء بالخيبة حين يغادرون المحطات يائسين بعد نفاد الكمية من المحطات دون حصولهم على ليتر واحد أحياناً بسبب الدور أو عدم مقدرتهم دفع (50 ليرة) على بيدون يتسع (20 ليتر).
شهادات أصحاب المحطات والسائقين
وحتى تتضح الصورة لنا أكثر التقينا بأحد أصحاب إحدى المحطات، فأكد لنا أن: «هناك أسباباً كثيرة لفقدان المادة، بعضها يتعلق بحركة الاحتجاجات التي تشهدها سورية، فالكثير من المحطات في المناطق الساخنة توقفت عن تقديم خدماتها، وهذا جعل الضغط يزيد على محطات أخرى في مناطق ومحافظات أخرى قريبة»..
وقال آخر: «واحد من الأسباب هو الأزمة التي تمر بها سورية مما يزيد الطلب على محطات وينخفض على محطات لا يصل إليها المازوت، وربما هذا يعزز السلوك الخاطئ عند بعض المواطنين أثناء حدوث الأزمات بأن يسعى لتوفير كميات فائضة عن حاجته لكي لا يقع في فخ ضعف العرض لاحقاً».
وعن الأسباب الأخرى يضيف صاحب محطة آخر: «الكميات التي نحصل عليها عادة انخفضت بشكل ملحوظ (ورفض إعطاءنا تفاصيل الأرقام)، كما أن بعض أصحاب آليات نقل المواطنين أصابهم الجشع، ومعظمهم يحاولون تأمين أكبر كمية ممكنة من المازوت، خوفاً من ألا تتوفر المادة غداً، لأن صاحب الميكروباص أصبح يعطل يوماً أمام المحطات لتأمين المازوت، ويعمل ثلاثة أيام أخرى».
أما بالنسبة للسائقين فالمسألة مختلفة.. قال لنا سائق الميكروباص «أبو أحمد»: «أعمل في اليوم (16 ساعة)، أقضي منها أحياناً بين (5 -6 ساعات) في ساعات الذروة أنتظر قدوم صهريج المازوت للمحطة، فإلى متى سيبقى مسؤولونا صامين آذانهم ومتعامين عما يجري عبر تصريحاتهم التي مللناها على التلفزيون السوري؟!، فنحن نعمل بنظام العمل الحرّ، وإن لم نعمل يوماً لن نأكل، لأننا سنتعطل عن العمل ربما يوماً أو يومين»..
أما سائق السرفيس «أبو خالد» فأكد وهو بحالة عصبية شديدة أن: «التسول أصبح أفضل وأكثر حفظاً للكرامة من العمل كسائق في هذه الظروف، فلا المازوت متوفر، ولا الأجور متناسبة مع الجهد المضني، ولا العلاقة مع المواطنين (الركاب) باتت تطاق.. فالجميع (معصّب) والجميع يرى أنه مظلوم أكثر من غيره»!..
ماذا عن المعامل والمدارس؟
وفي حديث الأزمة لا يمكن التغافل عن أنه يوجد الكثير من المعامل والمصانع التي هي بحاجة ماسة للمازوت وبكميات كبيرة لتستمر في عملية الإنتاج، وخصوصاً التي تعتمد منها على توليد الكهرباء بمجموعات توليد لديها، مما يدفع الكثير من أصحاب هذه المعامل لملء خزانات كبيرة مما يزيد الطلب.
وعند التدقيق في الأسباب الواردة آنفاً، وصدقنا كلام المسؤولين عن توفر المادة، نستنتج أن أسباب الأزمة وقتية والزيادة في الطلب هي زيادة وهمية لأنها ناتجة عن ظروف معينة طارئة، وحين يملأ الجميع ما لديهم من خزانات ستقل حدة الطلب، ولكن ليس بفضل الإدارة الحكيمة للمسؤولين، ولكن بسبب الاكتفاء هذا إذا صدقنا طبعاً أن الأزمة بهذا الحجم فقط.
أما المدارس، فلا أحد في هذه الجلبة الحاصلة يأتي على ذكرها بقوة وجرأة، ويبدو أن آخر هم الجميع اليوم هو إيصال الدفء للمقاعد المدرسية، فالأهالي يرون في ذلك بطراً، لأنهم لا يستطيعون تأمين مازوت المنزل فكيف لهم أن يطالبوا بتدفئة المدارس، أما المسؤولون فلا يحاولون فتح هذا الموضوع أساساً، وإن حدث وسألهم أحد عن حال الطلاب في المدارس في ظل قلة أو انعدام مخصصات المازوت، فإنهم يهربون من الجواب أو يراوغون في الجواب عليه!.
أزمة الغاز أيضاً!
يبدو أن المصائب تأتي مجتمعة، فالمواطن السوري المسكين من أين سيلقاها! فهو يعاني الأزمة تلو الأخرى وتتعدد المصائب، فبعد أزمة المازوت ووقوف المواطن في طوابير لمدة ثلاث ساعات في اليوم ها هو أيضاً أمام وقفة أكثر من أربع ساعات أخرى أو أكثر لتأمين أسطوانة غاز، وهذه المرة ليس من أجل التدفئة على الغالب وإنما من أجل طهي الطعام.
صحيح أن المواطن السوري اعتاد في كل عام على هاتين الأزمتين المتكررتين، واعتاد على تبريرات ووعود المسؤولين الجاهزة وهي نفسها تقريباً في كل عام، وعامل الاستمرارية موجود دون إيجاد الحلول، ولكن المسألة مختلفة هذا العام، فالقلق أكبر والخوف من الواقع الراهن والمستقبل أشد مضاضة.
وفي جولة لقاسيون على العديد من المراكز ومحلات التوزيع، تم رصد واقع هذه المراكز حيث أن الطوابير هي بنفس حجم الطوابير أمام محطات الوقود، وربما تزيد أكثر، حيث تم رصد حالة تجمعات كبيرة أمام مركز القابون يوم السبت الماضي بتاريخ 19/11/2011 وعدم مقدرة موظفي المركز على الدخول إلى وظائفهم من شدة الازدحام، فحينها سيدخل إلى المركز على الأقل نحو 100 شخص بمجرد فتح الباب!! وهذا التجمع كان وسط جوّ غزير المطر، والطرق ممتلئة بالطين والوحل، و«حلها يا أبا الحلول!!».
وفي حديث جرى مع أحد الشبان، صرح لنا بأنه يريد تبديل أسطوانة الغاز من أجل حاجته هو وعائلته لها في المطبخ وليس من أجل التدفئة، مؤكداً أنه كان قد وقف في يوم سابق أيضاً ليحصل على (50 ليتر) من المازوت للتدفئة، وليس لتهريبها إلى الدول المجاورة الذي أصبح هاجساً لدى الجشعين.. وقال: «يا زلمة مفكرينا عم نهرب المازوت حتى عم يحرمونا منه... ما هو كل سنة من لما صاروا يخترعوا شي دفاتر وشي شيكات صرنا نسمع بالتهريب، والحالة هيه نفسها كل سنة».
أما محمد فقال: «لا أريد أن أتكلم كثيراً، وأنقل عني لمن يسمع: الله يكون بعون المواطن على هيك مسؤولين».
جورج قال: «أنا أنتقل منذ أسبوع كامل من محطة إلى محطة ومن مركز إلى مركز لتبديل إسطوانة فارغة.. قرفنا حالنا يا رجل.. ولما لقيت مين يبدل الجرة (اسطوانة الغاز) رفع سعرها حتى /550 ليرة/».
ولطالما أن مشكلة تزايد الطلب على الغاز موجودة كل عام وبالموعد نفسه، فلماذا يبقى المواطن تحت رحمة الظروف، وتحت رحمة المسؤولين الذين يشهدون كل عام مثل هذه الأزمات ولا يوفرون أسطوانات غاز أكثر لتناسب الطلب؟ فإذا كان الشرفاء القليلون في الأعوام الماضية يبادرون لفعل شيء في مواجهة الأزمة، فهذا العام اكتفوا بالتصريحات والتطمينات وتبرير ما يحدث، حيث قال أحدهم على شاشات التلفزيون الحكومي: « الأزمة زادت مع موجة الصقيع حيث يتم استخدام التدفئة بجميع أشكالها لمدة طويلة ولساعات متواصلة». وكأننا نقبض رواتب تتجاوز (700 دولار) حتى نتمكن من ذلك! وسارع البعض الآخر من المسؤولين ليبشر المواطنين بأن الأزمة انتهت وبدأت بالانحسار، وخصوصاً موضوع الغاز حيث تم إضافة آليات نقل للغاز من بانياس بعد تعطل عمل القطار.
مشكلة المازوت في التوزيع والغاز في النقل
حدد وزير النفط السوري سفيان العلاو بحسب ما ذكر موقع (دي برس) أن «طريق الحد من الأزمة (المازوت والغاز) بإجراءات تقوم بها شركة المحروقات بعد أن أظهرت المتابعة أن المحطات الخاصة عاجزة عن حل مشكلة المازوت وأنها جزء من المشكلة بغياب آليات الرقابة والمتابعة المعنية بها وزارة الاقتصاد». إن هذا الكلام إن ذكرنا بشيء فإنه يذكرنا بالذين سبقوه من حكومة العطري التي لا تعني للناس إلا القلة والبرد والأزمات المتتالية.. فتصريحاتهم نسوها في مكاتبهم حتى أتى الذين بعدهم ليصرحوا بما يشبهها أو يتطابق معها تماماً، فلم هم عاجزون حتى على توصيف الأزمة..! هذا سؤال برسم الإجابة الصادقة وليس الصمت أو المراوغة، فمن يطرحه هو الكثير من المواطنين.
الحظ الأوفر للحطابة الذي انتعشت سوقها...
وجد تجار الحطب انتعاشاً ملحوظاً على سوقهم في هذا العام، فهم يجدون سوقاً مناسبة لبضاعتهم التي استهوت الكثير من الناس الفقراء والميسورين الحال حيث الغلاء الذي تشهده مادة المازوت المتوفر (الأخضر) وقلة وجود المازوت العادي وتدني وجود أسطوانات الغاز، كل ذلك جعل من سوقهم الوحيدة المنتعشة بالرغم من ارتفاع أسعار الحطب عن العام الماضي ووصوله لسعر (10) ليرات للكيلو غرام الواحد، ولكنه يبقى أرخص، والأهم أنه متوفر أكثر من المازوت والغاز... وفي جولة لنا في المناخلية التقينا المواطن أبو حسين الذي قال: «لا ينقصنا بعد في سورية سوى بيع الحطب في السوبر ماركت شأنه شأن محارم التواليت وفواكه الشتاء، بالقطعة أو بالكيلو لا يهم، لأن سعره بات قريباً من المازوت والفاكهة، وهو منوع، (شي على زيتون، وشي على مشمش) .. ولكن إلنا الله على هالمسؤولين يلي عم يتسلوا فينا، وهم موفر لهم كل شي وواصل لعندهم دون أدنى جهد وعناء..
وقال لنا توفيق الذي كان يشتري «صوبية» حطب: «سنرجع إلى زمن ما قبل النفط وخصوصاً أننا نعيش في زمن الإصلاح بركي بيصلح الوضع وبنفكر حالنا باليابان... أقول لمسؤولينا: عليكم أولاً بإصلاح أنفسكم وضمائركم قبل أن تعطونا الحكم والوعود، فأقلكم لديه ما يكفي من الطاقة والاحتياجات النفطية، وربما على حساب خزينة الدولة، فكفوا عن الظهور لأنه ظهوركم يستفزنا».
وليس آخراً
كعاداتهم دائماً، يطل علينا المسؤولون ويحاولون نكران الأزمة، بينما أرض الواقع تقول بأنهم لا يتحركون من خلف مكاتبهم، ولا يخطون خطوة واحدة خارجها، فهم لا يتعلمون من الذين سبقوهم، ولا يكلفون أنفسهم بتحمل العبء الذي أوكل إليهم، فماذا تنفع مناصبهم إذا لم يحترموا المواطن واحتياجاته وتأمينها.. ألم يدركوا بعد أن الناس نزلت إلى الشوارع وما عادت ترضى المهانة والسحق تحت الأقدام وهدر الكرامات؟