السوريون.. و«تفضيل» العمل في القطاع العام
يمتاز العمل في الوظيفة العامة بقلة أجوره وإنتاجيته، وتردي ظروفه في العديد من الإدارات العامة، ومع ذلك يمكن القول إن أغلب الشباب في سورية يفضلون العمل في القطاع العام، على العمل في القطاع الخاص، بل إن ثمة ما يقال عن استعداد بعضهم لدفع رشاوى بعشرات الألوف لتأمين وظيفة في القطاع العام، وهذا يدفعنا إلى طرح تساؤلات مشروعة عن أسباب هذه الظاهرة، والأهم عن دلالاتها ودلالات أسبابها.
يمكن القول إن هناك عشرات الأسباب التي تدعو الشاب السوري للسعي إلى وظيفة في إدارات الدولة، ومنها الاستقرار والثبات وضمان الحد الأدنى من الحقوق والتعويضات، إلا إن تشريح هذه الأسباب يقودنا إلى القول بأن عدم الثقة بالقطاع الخاص، وقلة رواتب العديد من شركاته التي تَقرِن رواتبَ موظفيها برواتب الوظائف الرسمية، وعدم احترام القطاع الخاص لقوانين العمل، ولحقوق موظفيه، إضافة إلى محاباة بعض القوانين، وبعض مطبقيها لملَّاك الشركات الخاصة على حساب العمال، كل هذا يفضي إلى الشعور بعدم الأمان في القطاع الخاص، في مقابل الأمان النسبي لدى إدارات الدولة، ويدعو إلى تفضيل العمل في الأخيرة رغم أمراضها المزمنة.
ومع ذلك فإن هذا التحليل يبدو ناقصاً، لأن ثمة شركات في القطاع الخاص تعطي رواتب جيدة، وتُشرِكُ موظفيها في التأمينات الاجتماعية، ومع ذلك فإن عدداً من الشباب السوري يتركونها ويتجهون إلى الوظائف الحكومية عند أية فرصة سانحة، كما أن الرواتب الهزيلة التي يؤمنها العمل في الوظيفة العامة، تبدو غير كافية لتبرير انتقال البعض من محافظة إلى محافظة للعمل فيها، والأهم أنها غير كافية لتبرير استعداد البعض لدفع رشاوى عالية للحصول عليها، وهكذا فإن ثمة ما يجب إضافته لتكتمل الصورة.
يقدم العمل في القطاع العام عشرات الفرص الذهبية للموظف، فهو يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات الوصول إلى مراكز متقدمة في الإدارات، مما يعني هامشاً واسعاً للفساد والسلطة والمحسوبيات، هذا على صعيد الطموح، أما على صعيد العمل اليومي، فإن عشرات الوظائف تؤمن دخلاً إضافياً للموظف من خلال الفساد الصغير «الإكراميات»، وللتأكيد نقول إن سؤال «أين عُيِّنت في وظيفتك؟» يستتبع بعده عند أغلب السوريين «وهل هناك إكراميات؟»، ومؤخراً تطور السؤال اللاحق ليصبح «وهل الإكراميات جيدة؟». أما عند غياب الإكراميات، وخاصة مع محاولات الفاسدين الكبار الحثيثة لقمع الفساد الصغير، فإن ثمة أبواباً أخرى من قبيل إمكانية التملص من الدوام الرسمي، والذهاب إلى أعمال حرةٍ أخرى لتأمين لقمة العيش التي لا يمكن أن يؤمنها راتب الوظيفة، وهي فرصة لا يسمح بها القطاع الخاص أيضاً.
يضاف إلى ما تقدم القناعة الراسخة لدى المواطنين السوريين، بأن القطاع الخاص قادر في ظل الفساد المنتشر في البلاد، وفي ظل القوانين سهلة الاختراق على سلب أي عامل حقوقه، وطرده من العمل في كل لحظة، وهي قناعة صحيحة لها ما يبررها ويدعمها على أرض الواقع، حتى بالنسبة للشركات التي تبدو كما لو أنها تعمل وفق معايير متطورة نسبياً، والتي تبدو كما لو أنها تحترم حقوق العمال والقوانين الحامية لها.
إذاً فإن الفساد بمختلف صوره هو ما يقود السوريين إلى «تفضيل» العمل في إدارات الدولة، والقبول بشروطه المجحفة، هو الفساد الصغير الذي قد يستفيدون منه لسد رمقهم ورمق أسرهم في القطاع العام، وهو قبل ذلك الفساد الكبير الذي يؤدي إلى انخفاض الدخول في القطاع العام والقطاع الخاص تبعاً له، ويمكِّن القطاع الخاص من الاستهتار بحقوق موظفيه وطردهم، أو التعامل معهم كعبيد وقت يشاء، هي هذه المعادلة التي يبدو المواطن العادي غير قادر على تجاوزها، ومضطراً للقبول بها ليتمكن من الاستمرار في الحياة على أرض هذا الوطن.