بين قوسين صناعة الانتصار
شجّع الناس المنتخب الكروي السوري المشارك في كأس آسيا بكل حماس وحب، متناسين خيباتهم المتكررة فيه.. صلّوا من أجله، ودعوا له، وابتهلوا ونذروا النذور.. وأصبح شغلهم الشاغل وحديث الأمسيات والصباحات في البيوت والشوارع والمقاهي وأماكن العمل. لكن ذلك كلّه لم يشفع له ولهم، ففي النهاية، وكما هو الأمر منذ عقود، حصد الناس المرارة، وبكت قلوبهم قبل عيونهم، وراحوا يجترون ألماً طالما ذاقوا طعمه، وحصد المنتخب خيبة جديدة بخروجه من المنافسة مبكراً رغم أن الفرصة كانت متاحة للبقاء مدة أطول «نسبياً»..
وفي الوقت الذي كان فيه الناس يراهنون على الأمل، اكتظت الشاشات الرسمية وشبه الرسمية بالباحثين عن انتصار، أي انتصار يخفي سوءاتهم وفسادهم ونهبهم، وتوالت التصريحات المليئة بالشعارات المنقرضة، وتتابعت اللقاءات مع اللصوص والفاسدين والمتنفذين والمتلكئين والمتخلفين والمتكرّشين، وعلى رأسهم المسؤولون الرياضيون وغير الرياضيين، وجميعهم راحوا يطلقون الوعود السخية المشروطة بالفوز، طالبين من المنتخب الذي لم يقدموا له أي شيء، ولم يُبقوا له أي شيء، أن يفعل كلّ شيء.. خصوصاً بعد أن حقق فوزاً أولياً «تاريخياً» لم يكونوا يتوقعونه على منتخب السعودية، المهلهل جداً.
وبطبيعة الحال، وبغضّ النظر عن الوعود الواهية، فإن رجال المنتخب ركضوا ونافسوا وقاتلوا وسجلوا بعض الأهداف، إلا أنهم كانوا بلا بوصلة، بلا خطة، بلا إعداد نفسي أو بدني، بلا إدراك لمكامن قوتهم وضعفهم، ومكامن قوة وضعف منافسيهم، بلا استعداد فعلي لصناعة الصمود أو الانتصار، فراحوا يتلقون الأهداف السهلة ويخسرون بصورة تثير الغضب والجنون، في ظروف لا يخسر فيها إلا من استبد به الضعف وانعدام البصيرة وقلة الحيلة والإمكانيات.
وكما جرت العادة بعد كل خيبة، عاد متصدرو الشاشات مؤقتاً إلى الظل بعد أن حمّلوا مسؤولية «النكسة» للآخرين المغرضين أو المتهاونين، حكّاماً ومدربين وإداريين ولاعبين، وللظروف التي رافقت المشاركة «المفيدة»، منتظرين أن يهدأ سخط الناس وحزنهم.. والمسألة برمّتها كما خبروها جيداً لن تحتاج إلا بضعة أيام.. بضعة أيام فقط.. وسرعان ما ستعود البلاد إلى سيرتها الرمادية القائمة والمستمرة.. الناس سيعودون إلى أعمالهم وهمومهم الاقتصادية- الاجتماعية المتفاقمة ولهاثهم وراء لقمتهم، وهم وأقرانهم من المسؤولين والمتنفذين والمتكرشين سيعودون إلى نهبهم وفسادهم وغيّهم.. ولاحقاً سوف تتكرر الحكاية، بالطريقة ذاتها، والمقدمات والنتائج ذاتها، وإن اختلفت التفاصيل وبعض الوجوه..
فإلى متى ستتوالى هذه الكوميديا السوداء؟ وهل بإمكان البلاد أن تتحمل كل هذا الألم والحزن والنهب والفساد إلى الأبد؟
الانتصار في المجالات كافة صناعة طويلة الأمد، لا تفيد معها الأماني والتضرعات والابتهالات ووعود اللحظة الأخيرة، بل تحتاج إلى إرادة واعية، وتوفير إمكانات، وتأمين مستلزمات، وتكوين خبرات، واكتشاف وتطوير مواهب حقيقية لتصبح كفاءات حقيقية، وإعداد نفسيّ وبدنيّ وخططيّ، ورعاية مستمرة للمجتمع المنتج للطاقات، والتفات جديّ إلى حاجات أبنائه المادية والمعنوية، وسهر وتعب وتخطيط وعمل دؤوب، وإدارات كفوءة ونزيهة ووطنية، وقبل كل شيء بناء الإنسان المؤمن بذاته وقدراته والمعدّ لتحقيق الانتصار، فصاحب الصوت الخافت، المهمّش، المهزوز أو الخائف، لا يمكنه أن يحقق أي انتصار..
منذ عقود طويلة، وفرقنا الرياضية وغير الرياضية (!؟) التي تُنهب وتُهمل، تَخسر وتَخسر وتتقهقر، والناس يحزنون ويتألمون دون أن يلتفت أحد لمشاعرهم.. بينما يتقدم الآخرون، الأصدقاء والأشقاء والأعداء.. ويهزمون ما يقدمه الفاسدون المتربعون فوقنا للعالم على أنه نحن.. بينما نحن – الشعب السوري- طاقاتنا أكبر مما يُقدم بكثير، وكموننا أكبر وأكبر، وأحلامنا وتطلعاتنا ليس لها حدود.. ولسوف يأتي ذلك اليوم الذي سنبني فيه منتخباتنا الحقيقية القوية في المجالات كافة، ونصنع فيه انتصاراتنا الكبرى التي تشرّفنا؟.