من الذاكرة : أين رأيته؟
أيام كنت في عداد حرس سجن المزة العسكري عام 1959 كان للسجن حرسان:
حرس داخلي عناصره من الشرطة العسكرية يحرسون الباب الرئيسي وأسوار السجن وداخله ومنهم مجموعة من رقباء وعرفاء وأفراد مكلفون بتعذيب المعتقلين بإشراف لجان التحقيق المكونة من ضباط أمن مدنيين وعسكريين، والمعتقلون العسكريون يشغلون الطابق الأرضي، بينما يشغل المعتقلون المدنيون الطابق العلوي.
حرس خارجي عناصره من جنود المدرعات مع ثلاث مصفحات، ولا علاقة له بالتعذيب لا من قريب ولا من بعيد، وأنا واحد من هذا الحرس، ومن ضمن مهمتي إلى جانب الحراسة مرافقة المرضى من زملائي إلى مستوصف السجن للمعالجة، وكنا ننتظر بين البابين الداخلي والخارجي لأكثر من عشر دقائق ريثما يتم تأمين الطريق أمامنا بإبعاد من يتواجد من المساجين وبخاصة الذين تعرضوا أو يتعرضون للتعذيب الجسدي خارج غرفة التحقيق، وفي إحدى المرات حين فتح الباب الداخلي لندخل خرج أحد المساجين العسكريين وهو برتبة مرشح، وقد أطلق سراحه، وكان شديد الإنهاك ويحمل بيده بنده وكتّافيتيه العسكريتين، فقلت له الحمد لله على سلامتك، وسألته عن سبب سجنه، فأجاب سجنت بتهمة العمل السياسي، أدركت عندها أنه إما رفيق أو صديق، ساعدته بتركيب الكتافيتين والبند العسكري وسرت معه إلى الباب الخارجي وناديت على سائق سيارة التموين وهي على وشك التحرك ليأخذ المرشح معه إلى مدينة دمشق، شكرني وأسرع باتجاه السيارة. وبعد شهرين على هذه الواقعة، صرت في عداد المساجين (انتقلت من خارج السجن إلى داخله) لأكون نزيل زنزانة لمدة شهر ونصف، ومن ثم وبعد تقديمي للمحكمة العسكرية التي برأتني نُقلت إلى أحد المهاجع ولم يطلق سراحي، وصار بإمكاني أن «أتمتع» بالتنفس مع باقي المساجين في ساحة السجن، وفي إحدى فترات التنفس لمحت أحد المساجين، فخيل لي أن وجهه ليس غريباً علي، لكنني رغم إعمال الفكر لم أستطع تذكره، ولم يتح لي التأكد من معرفته فقد أطلق سراحي وظل ذلك الوجه يتراءى في مخيلتي لشهور، وفي ظهيرة أحد أيام الربيع كنت مع أحد أصدقائي في جولة كعادتنا على بسطات الكتب لشراء ما نستطيع منها، تلبية لرغبة جارفة في المطالعة وبخاصة الكتب «ذات السلاسل» كسلسلة الكتاب الذهبي والفضي والروايات والقصص العالمية (طبعاً كل هذا كان أيام زمان) وأمام بسطة بين مسرح العباسية ومكتبة التنبكجي بطلعة الحجاز التقيت صاحب الوجه الذي حيرني وأتعبني تذكره، فبادرته بالتحية الحارة وقبل أن يرد التحية باسماً ارتسمت في مخيلتي صورة وجه المرشح الذي التقيته أمام باب السجن الداخلي وساعدته بوضع الكتافيتين والبند العسكري، وقد أعيد سجنه ثانية وخلالها لمحت وجهه في فترة التنفس، فتعانقنا وتعارفنا بالأسماء.. إنه الرفيق وديع ناجي أبو الوفا.