لا يموت حق : ثـمن الخطأ
استوقفني جارنا القديم شارحاً ما يلي:
أعترف لك أني مخطئ، ولكن هذا ما جرى معي وإليك القصة، كما تعلم أنا موظف سابق لدى جهة عامة ولي سمعتي الوظيفية والأدبية في هذا البلد، ومؤخراً خرجت على التقاعد بعد خدمة للدولة لمدة ثلاثين عاماً مع التمديد! ومن المعارف لي الكثير وكلهم يا أستاذ «بدّن خدمة إلي»!! اخترت من بين معارفي رجلاً عرفته من أصحاب اليد التي تصل إلى كل مكان (أي مدعوم) يركب المرسيدس ويلبس الثياب الأنيقة ويسهر في الأماكن الراقية، أخبرته أني أريد مشروعاً أجني منه الأرباح سريعاً. فأقنعني أنه يستطيع إحضار البضاعة التي أريد تهريباً ونستفيد معاً من فارق السعر، وفعلاً اتفقت معه وأعطيته ثلاثة ملايين ليرة سلفة على حساب كامل القيمة. مضى شهر ثم اثنان، ثم انقضت السنة ولم ينفذ الرجل وعده فطالبته بإعادة المبلغ وأفهمته أني لم أعد راغباً بإتمام الصفقة. في البدء هز رأسه وقال بتراخٍ «خير إنشاء الله» ودخلتُ دوامة الوعود، بعد يومين، بعد أسبوع، بعد شهر. ووجدت نفسي في دوامة الملاحقة المُذلة المُنهكة وصار يتهرب مني وأخذ يختفي من الأماكن العامة التي كان يظهر فيها، إلى أن التقيته في بيته بعد أن تأكدت أنه بالداخل فأخذت أتوسل إليه أن يعيد لي أموالي، قلت له هات لبوس أيدك، بدي الملايين الثلاثة «شقى العمر وتعبو»، وبلا مبالاة وبأعصاب باردة أجاب: «أي مبلغ تتحدث عنه». لقد تنكّر للموضوع بكل وقاحة وبعد سجال طويل معه لم أجد طريقاً سوى تهديده، ولما سمع ذلك نهض من مكانه ساخراً وقال روح بلّط البحر، وطردني. ماذا أفعل؟؟
المشكلة هنا تكمن في تبليط البحر أي في الإجراءات القضائية التي ستلجأ إليها لمقاضاة هذا المحتال لتستعيد المبلغ. موضوعك يتلخص في أنك اتفقت معه وعقدتما النية على التهريب، والثابت قضائياً أن النية في جرم التهريب غير معاقب عليها. فإذا أخذنا هذا الجانب القانوني بعين الاعتبار يصبح المبلغ الذي بقي في حوزة «المدعوم» له صفة الوديعة فقط، والقانون يقول: عليه أن يعيد الوديعة فور الطلب وإلا أساء الأمانة وعلة النص وإجراءات دعوى إساءة الائتمان معروفة وأولها إبراز الدليل الخطي، وبتقديري مشكلتك الحقيقية هنا غياب وسيلة الإثبات ومن غير المنتظر أن يقوم هذا الرجل المدعوم بالاعتراف بالمبلغ المودع لديه وسيلجأ قطعاً إلى إنكاره، وربما لجأ إلى اتهامك أيضاً بما يزعجك وربما انتهى بك المطاف أن تكون أنت المحتال، من يدري ...؟؟. بتقديري مشكلتك أنه ليس بمقدورك إقامة الدليل على استلامه المبلغ، واتفاقك معه كان في الظل والخفاء كأي صفقة مشبوهة يقدم عليها الطامعون بالربح السريع وعلى حساب القانون.
وأخيراً: سمعته بكل اهتمام ودهشة لأني لم أستطع أن أمنع سؤالاً دار في ذهني، كيف يمكن لموظف لدى القطاع العام أن يجني عند التقاعد ثلاثة ملايين «وما خفي أعظم»، ولا يزال يحتفظ بسمعته الوظيفية والأدبية!!؟