المسألة الزراعية بين الأمس واليوم المخاطر والصعوبات والإجراءات الهدامة في وجه الزراعة السورية
من المعروف جيداً أن الزراعة هي الركن الأساسي والعماد الأول الذي يرتكز عليه الأمن الغذائي والقومي، والداعم الأكبر للسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي الاقتصادي، بعيداً عن أية ضغوط خارجية أو ابتزاز، وهي من أهم فروع الاقتصاد الوطني سواء من خلال مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، أو تشغيل اليد العاملة، وخلق القيمة المضافة وتأمين الاكتفاء الذاتي، وتزداد حاجتنا لكل ذلك مع ازدياد التوتر والأزمات الداخلية والإقليمية والعالمية، وتفاقُم الأزمات الاقتصادية للرأسمالية، وشموليتها أغلب البقاع التابعة لها أو المرتبطة بها عضوياً أو حتى شكلياً.
وتكتسب الزراعة أهمية كبرى على مسار آخر شديد الحساسية والأهمية والتأثير على الاقتصاد الوطني، من خلال علاقتها المتبادلة مع الصناعة، حيث تؤمن الزراعة للصناعة مدخلاتها الأساسية وكثيراً من المواد الأولية الصناعية، وتعتبر مخرجات الصناعة أهم مدخلات التنمية الزراعية، من جرارات ووسائل إنتاج ومبيدات وأسمدة.. إلخ، والتي تساعد بشكل كبير على زيادة الإنتاج والمردودية، أي مقدار ما تنتج وحدة المساحة، سواء الهكتار أو الدونم، خلال الموسم الواحد.
سياسات هدّامة ومعوقات مخططة
رغم كل ما ذكرناه عن أهمية الزراعة وضرورة الاهتمام بها ودعمها وتشجيع الفلاح على ممارستها والالتصاق بأرضه، تتعرض الزراعة في سورية لكثير من السياسات والممارسات الحكومية التي تعيقها وتحد من تطورها، بل وتدفعها إلى التراجع من خلال تيئيس الفلاحين وتحميلهم الكثير من الأعباء والضغوط، مثل رفع تكاليف الإنتاج برفع سعر البذار أو إعطاء بذار سيئ قليل المردودية ويعطي محصولاً سيئ النوعية، ورفع سعر المحروقات وخاصة المازوت الذي أدى إلى ارتفاع أجور الفلاحة والري إلى الحد الذي كسر ظهر الفلاح وجعله يهجر هذه (المهنة) الوطنية بامتياز، باحثاً عن الحلول البديلة الهشة سواء بالانتقال إلى الزراعة البعلية، أو ترك الأرض نهائياً والهجرة.
تناقُص مساحة الأراضي الزراعية
نتيجة للسياسات الزراعية غير المستدامة والمتبعة خلال العقود الأخيرة تناقصت نسبة الأراضي الزراعية في سورية من عام 1970 حتى عام 2006 بنسبة 36%، أي فقدت أكثر من ثلث أراضيها الزراعية، وهي نسبة خطيرة تؤثر على الوضع الاقتصادي الداخلي والحياة المعيشية اليومية للمواطن، فقد تقلصت من 8720 ألف هكتار إلى 5950 ألف هكتار، وهذه المساحة تشكل 32% فقط من مساحة سورية، وحتى هذه المساحة لم يتم استغلالها بالشكل الأمثل وضمن برامج زراعية مدروسة ومخططة، بل يتم استغلال فقط 4743 ألف هكتار منذ 2006 حتى اليوم، أي بنسبة 85% من الأراضي الصالحة للزراعة والتي نسبتها فقط 64% من مجموع الأراضي الزراعية. بينما بالمقابل تزايد عدد السكان من 6.5 مليون نسمة إلى 23 مليون نسمة حالياً أي بنسبة 354%، ولم تعمل الحكومات على اتخاذ برامج وخطط تنموية مستدامة تتماشى مع هذا النمو السكاني، ويعد تهميش الزراعة والفلاح، والتهجير المتعمد له من أرضه، السبب الأساسي والأخطر في تناقص الأراضي الزراعية ونسب استثمارها.
اغتيال القمح
إن عمليات التوزيع المخطط والمدروس للبذار والأسمدة الفاسدة التي وُزِّعت من الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية ومؤسسة إكثار البذار خلال موسمي (2007 ـ 2008) و (2008 ـ 2009) هي عملية تدمير مقصود لمواسم القمح، ولتيئيس الفلاح وإكراهه على ترك الزراعة، والهجرة من أرض أهله وأجداده. وقد تعرضت مواسم القمح في الموسمين المذكورين لأمراض لم يسمع بها الفلاح من قبل بسبب البذار الفاسد، حيث لم يكد الموسم يقرع أبواب الحصاد في المزارع المروية حتى تغيرت أشكال السنابل وتحولت من اللون الأصفر إلى القاتم وظهرت السنابل خالية سوى من حبات نادرة من القمح، وبشكل موازٍ فالمزارع غير المروية ابتُليت بأمراض غريبة، حيث ظهرت الحشرات المتنوعة دون أن تتقدم الجهات المعنية بأية مساعدة، ومعظمها أظهر اللامبالاة ولم يبادر إلى تقديم الحلول السريعة لحماية المحاصيل، وقد ثبت فيما بعد أن هذه الأمراض ناجمة عن البذار السيئة المريضة أساساً، فمَن كان وراء هذا النوع من البذار؟! هل هم تجار السوق السوداء الذين فتحت لهم الحكومة الباب على مصراعيه ليتصرفوا في كل المجالات بما يرضي طمعهم وجشعهم وربحهم السريع غير الشرعي؟! أم هي مؤسسة إكثار البذار والهيئة العامة العلمية للبحوث الزراعية، في الوقت الذي أصبحت فيه الخريطة البيولوجية للقمح أو الـDNA معروفة في كل المختبرات، بينما المعنيون بالأمر في سورية مازالوا يعانون أوربما يقصدون توزيع بذار مليئة بالأمراض، الأمر الذي يترك الفلاح والزراعة في تراجع مستمر، والوطن والمواطنين في دوامة أبدية من الفاقة والعوز والتدهور الاقتصادي.
القضاء على خزان الأمان
في موسم 2008 ـ 2009 وصل مجموع إنتاج القمح في محافظة الحسكة إلى 1.2 مليون طن من أصل الإنتاج العام في سورية البالغ في الموسم نفسه 3.7 مليون طن، بينما المتوسط العام للإنتاج السنوي من المفترض أن يكون 5 مليون طن. ورغم هذا التراجع الكبير في الإنتاج فقد ألزمت الحكومة مزارعي هذه المنطقة بممارسة الزراعة البعلية، والتي هي في الحقيقة تدمير اقتصادي مخيف، وذلك فقط كي تتهرب من شكاوى المزارعين من ارتفاع أسعار المازوت أو الكهرباء اللذَين يعتمد الفلاحون عليهما في عمليات الري من المياه الجوفية عن طريق الآبار الارتوازية، وفي إلزام الحكومة الفلاحين باعتماد الزراعة البعلية أبقتهم في صراع دائم مع الطقس أولاً، ثم مع الفقر والعوز ثانياً، ما أدى إلى هجرة الكثيرين منهم وتركهم للزراعة. ومع أن الإنتاج العام لمحافظة الحسكة قد ارتفع في هذا الموسم عن الموسم الذي سبقه بنسبة تزيد عن 50%، إلا أنه بقي دون متوسط الإنتاج السنوي العام بحدود 30% بسبب نوعية البذار السيئة والأسمدة الفاسدة والزراعة البعلية، وبشكل عام السياسة المتعمدة في التدمير الاقتصادي للخزان الأساسي للخيرات السورية.
والقطن يتلقى الطعنة نفسها
في العام نفسه تمت معاملة محصول القطن بالطريقة نفسها والسياسة نفسها، فقد قدمت الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية وإدارة بحوث القطن البذار الفاسدة للفلاحين، فبعد أن كانت شجيرات القطن تشمخ متطاولة إلى الأعلى وتحمل لوزات عديدة، كان الفلاحون يتلذذون بتأمل حقولهم وبناء آمال كبيرة على موسم مليء بالخير والإنتاج الوفير، ولكن خلال الأسابيع الأخيرة وقبل انفتاح اللوز، اصفرَّت الشجيرات وظهرت الحشرات التي خربت القطن داخل الثمرة قبل انفتاحها، ولم يحصل الفلاح على نصف المحصول الذي كان يتأمله في موسمه الذي دفع دم قلبه وعرقَه وجهدَه ثمناً له، وكانت قد ظهرت تصريحات استباقية بأن محصول القطن يمكن أن يتعرض لفقدان في الناتج قد يصل إلى 50% من الحمل الثمري للنبتة، وكان التبرير الوحيد هو حالة الطقس والأجواء المتقلبة والجفاف، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا كان هناك انخفاض إجمالي لإنتاج القطن حتى في السنوات التي لم تعانِ كثيراً من الظروف الجوية القاسية؟! فقد انخفض إنتاج القطن من عام 2005 حتى عام 2009 بنسبة 30% من المتوسط العام، علماً أن نسبة الأراضي المزروعة قطناً لم تنقص خلال الفترة المذكورة، فقد استقرت المساحة المزروعة بالقطن في محافظة الحسكة في السنوات الأخيرة بحدود 173 ألف هكتار، وفي محافظة الرقة 53 ألف هكتار، أي بإجمالي مساحة 226 ألف هكتار مزروعة قطناً، علماً أنها كانت تبلغ 269 ألف هكتار في عام 1970، أي أنها تناقصت بنسبة 18%، وهذه نسبة خطيرة أثرت سلباً على حياة الفلاحين وعلى الاقتصاد الوطني والصناعة الوطنية.
ليس ختامها السياسة التسعيرية الظالمة
أصبح معروفاً وملموساً على أرض الواقع أن هذه الزراعة قد أصبحت غير رابحة لقسم كبير من الفلاحين، بسبب انعدام دعم الدولة لهم، وخاصة بعد رفع أسعار المازوت وتحرير أسعار الأسمدة، ضمن سياسة انسحاب الدولة من دورها الرعائي والتوجه نحو الخصخصة واللبرلة. فتخلى قسم كبير من المزارعين في شمال وشمال شرق سورية عن الزراعات الاستراتيجية الهامة لاقتصاد الوطن، ولجؤوا إلى الزراعة البعلية المحدودة المعتمدة على الأمطار تحت ضغط مخطط إبقاء المواطن في فاقة وعوز دائمين، وشعور مهين بالحاجة الماسة لدعم ورعاية الدولة، ولإجراءات حكومية إسعافية تنقذه من هذا الوضع المتردي، وإلا فسيضطر قسراً للهجرة من الأرض، لتصل البلاد بعدها إلى الغاية الضمنية لهذا الفريق الاقتصادي الذي تساهم سياسته في تدمير القطاع الزراعي وتهجير الفلاح من أرضه.
الضربة القاضية التي يواجهها الفلاح بعد كل هذه المعاناة والمشاكل وتراجع الإنتاج مقابل ارتفاع تكاليفه، هي السياسة التسعيرية وتسويق المحصول، فاللجان المختصة بوضع تسعيرة للمحاصيل لا تقرر الأسعار إلا بعد استلام المحصول، ويكون قرارها غالباً محكوماً بالفساد والرشوة أو الخطأ في تحديد القيمة الحقيقية للمحصول، ولا يعرف المزارع كم سيقبض ثمناً لمحصوله إلا بعد الذهاب إلى المصرف، وفي أفضل الحالات يحصل على 40 ل.س للكغ، وهي لا تساوي نصف تكاليف إنتاجه، في حين الأسعار العالمية تعادل أكثر من 110 ل.س للكغ الواحد. فالمبلغ الذي يستلمه الفلاح، وبعد لأي وعناء كبيرين، تتراوح قيمته عادة بين 50 ـ 60% مما كان الفلاح يتوقعه ويطمح إليه، والأسباب دائماً موجودة، كالوزن والنوعية والجودة والتأخير في التسليم والرطوبة... إلخ، إضافة إلى الروتين والحصص العينية لرؤساء الدوائر واللجان، والممارسات الارتجالية التي تربك الفلاح وتحمِّله أعباء لم تكن في حسبانه، فقد وعدت الحكومة بتقديم قروض طويلة الأمد ودون فوائد للمزارعين، وعند مراجعة المصرف لقبض ثمن المحصول تفاجؤوا بأن الديون اقتُطعت مباشرة، وعاد الكثيرون إلى بيوتهم خاليي الوفاض، سوى مِن همٍّ وغمٍّ وحقد على الزراعة ومن يرعاها، فثمن المحصول لم يوفِّ القرض.
إضافة إلى كل تلك الأعباء فإن الحكومة لم تشتر من الفلاحين في موسم 2010 سوى القليل جداً جداً من محصول الشعير والعدس والحمُّص، فضارب التجار بأسعارها مضاربة احتكارية استغلالية وكانت الأسعار المعروضة للفلاح بخسة جداً، وهناك فارق كبير وظالم بينها وبين السعر الذي تصل فيه هذه المنتوجات للمستهلك، وكانت الأسعار العالمية للقمح والمواد الزراعية الأخرى تزيد بنسبة قد تصل إلى 100% من السعر المعروض، في حين أن سعر لتير المازوت تبيعه الحكومة للمواطن بسعر يقترب من الأسعار العالمية، وبما أن سعر الطن الواحد من القطن في سورية الذي تدفعه الدولة للمواطن لا يتجاوز 40% من الأسعار العالمية، فهذا يعني أنها تسرق منه 60% من عمله ورزقه وقيمة محصوله.
أما بعد
إن سورية غنية بالخيرات والثروات فلماذا هذه السياسات التدميرية، وللحفاظ على الإنتاج الزراعي المستقر والمتميز والسير به نحو التطور والتحسن لابد من الاهتمام بالبنية التحتية الزراعية وتشجيع الفلاح ودعمه وفقاً لمخطط حقيقي داعم وتأمين القروض وتخفيض الفوائد وزيادة المزايا وتأمين الكوادر المشرفة على العملية الإنتاجية.