العروة الوثقى
ثمة أمثلة شعبية دارجة على ألسن الناس، تلخص بشكل مبسط جميل أفكاراً علمية توصل إليها الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ المديد بعد أن أمضوا جل أعمارهم في الإطلاع والاستقصاء والبحث والتحليل سعياً وراء التعرف على حقائق الحياة وتفسير العالم لتغييره نحو الأحسن والأفضل، ومن تلك الأمثلة الشعبية على سبيل الشاهد:
«هون مكمن الداء، هون مربط الفرس، الكحل أشوا من العمى، بلا لف ودوران، الشمس لا يحجبها غربال، شو حاجك للمر قلو الأمرّ، خلينا بالأهم، كل شي إلو حل إلا الموت».
والمتمعن بالأمثال الآنفة يتبين ترتيباً واضحاً لدرجات الأهمية (هام ومهم وأهم). وهذا ما أعادني بالذاكرة إلى أيام المدرسة قبل أكثر من ستين عاماً، أعادني إلى التجهيز الأولى بدمشق أيام أتيح لنا كطلاب استيعاب الكثير من المعارف التي أصبحت سلاحاً بأيدينا وعقولنا في ميدان النضال السياسي والاجتماعي والفكري، وسأذكر منها اليوم أول فكرة علمية (عبت رأسي) أي أقنعتني فالتزمت بها، وهي فكرة الإمساك بالحلقة الرئيسية لكل حدث أو حادثة أو قضية تجابهني مهما كان نوعها وشكلها ودرجة تأثيرها. ففي أحد دروس الرياضيات وخلال حل مسألة حسابية «أشكل» علينا الأمر قليلاً، فبادرنا المدرس وهو رفيق بقوله: انتبهوا يا طلابي الأحباء دائماً إلى الأهم؟، فسأله أحد الطلاب: وكيف نعرف الأهم؟، وجاء الجواب على الصورة التالية: تصوروا أن صفنا هذا في بناء على جانب تل، والوقت شتاء، والمطر أخذ يتساقط بغزارة، وتسرب «دلف» من شق في السقف، وغطى غبش زجاج النوافذ وبدأ سيل ينحدر من التل، وباختصار نحن إزاء ثلاث مشكلات: الدلف، الغبش، السيل، فإلى أين يجب أن نتجه أولاً في التعامل مع المشكلات المذكورة؟ وبعد عدة إجابات توضح لنا الأمر جلياً، إن الأهم هو درء خطر السيل، وما عداه من ترميم للشق أو مسح لزجاج النوافذ يأتي «لاحقاً».
واليوم والساحة تزدحم بطروحات عديدة تعكسها مفردات (مع، ضد، خارج التغطية، نظام، معارضة، مصير وطن، إسقاط، حسم، انتماءات قبل وبعد ظهور الدولة الحديثة). يشخص أمام أنظار الجميع السؤال الكبير: أين الحلقة الرئيسية؟ أين العروة الوثقى؟ أين الأهم؟!.