مديرية الأوقاف باللاذقية ديون وفساد وأشياء أخرى..
أذكر مرةً أنني كنت أتناقش مع أحد العاملين لدى شركة كهرباء اللاذقية بعد أن استفحلت ظاهرة الاستجرار غير المشروع للتيار الكهربائي، وصولاً إلى ارتفاع الفاقد التجاري إلى نسبٍ عالية جداً تتجاوز 50% واقترحت عليه الطلب إلى مديرية الأوقاف بأن توعز لخطبائها في الجوامع بشرح ظاهرة الاستجرار غير المشروع، وبأنه يعتبر جريمة سرقة بكل معنى الكلمة، وأن ذلك يُعدُّ حراماً من الناحيتين الشرعية والقانونية، ويشكّل هدراً للثروة الوطنية وغير ذلك..
فما كان من المستمع إلى مداخلتي إلا وابتسم مشفقاً على سذاجتي وقال لي: «وكأنك لستَ من هذي البلاد! يا عزيزي فليتوقف أولاً القيّمون على المساجد والجوامع عن الاستجرار غير المشروع للتيار الكهربائي، وبعد ذلك اطلب منهم النصح والمواعظ والإرشاد..».
وبالتدقيق تبيّن أنه بالفعل يوجد أكثر من 60% من دور العبادة تقوم بمدّ كبل من الشبكة مباشرة دون المرور بالعداد الكهربائي لتغذية الأجهزة ذات الاستطاعة العالية، بالرغم من أن الحكومات المتعاقبة كانت تاريخياً تقوم بمراعاة دور العبادة لجهة الإعفاء من قيمة الطاقة الكهربائية عند حدود معينة، كان آخرها ما ورد بالمرسوم التشريعي رقم (77) لعام 2005 حيث تنص المادة الأولى منه على: «تعفى الجوامع والمساجد والكنائس وأماكن العبادة الأخرى بما فيها (ذات الأهمية السياحية والتاريخية) من رسوم وقيمة الطاقة الكهربائية المستجرة فيها وذلك في الحدود التي يقررها وزير الكهرباء بالتنسيق مع وزير الأوقاف».
معايير تقدير الاستهلاك
قامت وزارة الكهرباء استناداً إلى هذا المرسوم بإصدار التعليمات التنفيذية بموجب القرار رقم /1054/ للعام 2005 خاليةً من التطرّق لجهة دور العبادة ذات الأهمية السياحية والتاريخية، واكتفت بأن قسّمت دور العبادة إلى فئات وشرائح تبعاً لمساحتها من جهة، ولتواجدها في الأرياف أو المدن، من جهة أخرى. وحددت دور العبادة المستفيدة بإحدى عشرة فئة. وعلى سبيل المثال نذكر منها:
-الفئة الأولى: تشمل دور العبادة الواقعة في الضواحي ومناطق الأرياف والقرى التي تزيد مساحتها عن 75م2 بإعفاء لا يزيد عن (500) ك.و.س في الشهر.
-الفئة السادسة: تعفى بما لا يزيد عن (3000) ك.و.س شهرياً وتشمل دور العبادة التي تقع في المدن ولا تزيد مساحتها عن 250م2.
نستنتج مما سبق بأن وزارة الكهرباء اعتمدت في الإعفاء على مساحة دور العبادة لا على الاستطاعة المركبة فيها! وهذا خلل كبير في معايير تقدير الاستهلاك لا مبرر له إطلاقاً. إضافة إلى إن المرسوم ذكر حرفياً بمرسوم الإعفاء دور العبادة التي تتمتع (بالأهمية التاريخية والسياحية). ومن غير المعقول أن تتمتع بهاتين الصفتين جميع دور العبادة في سورية!
ماذا حصل في معرض تطبيق بنود المرسوم؟
قامت شركة الكهرباء بالتنسيق مع مديرية الأوقاف بتشكيل لجنة فنية مشتركة لدراسة واقع دور العبادة وتوصيف كل منها لتحديد نسب الإعفاء. وعملياً فإن الفنيين الذين قاموا بالدراسة كانوا من ملاك شركة الكهرباء فقط. وتقاعس المهندسون التابعون للأوقاف بالقيام بمهمتهم.
من الطبيعي والحال هذه أن يقوم فنيو شركة الكهرباء بتفسير المرسوم بما يتفق ومصلحة شركتهم؛ بمعنى كلما صغرت المساحة للجامع مثلاً كلما قلّت نسبة الإعفاء. وبناءً عليه فالجوامع الكبيرة مثلاً لدى قيامهم باحتساب مساحتها كانوا يسقطون من الحسبان حرم الجامع والمواضئ والحمامات والفسحة الملاصقة للجامع ومنزل الإمام إن وجد، ويقتصر حسابهم على أماكن أداء الصلاة، مما خلق إرباكاً كبيراً لدى تطبيق مواد المرسوم. وحصلت اعتراضات كثيرة من مديرية الأوقاف على الفواتير الصادرة والزائدة عن حدود الإعفاء، وامتنعت عن تسديدها وتراكمت ديونها إلى أن بلغت حوالي 20 مليون ليرة.
المقترحات:
تشكيل لجنة فنية مشتركة من الأوقاف والكهرباء في كل محافظة مهمتها إحصاء الاستطاعة المركبة في دور العبادة. وتشمل حصراً تلك المصنفة سياحياً وتاريخياً وفق منطوق المرسوم المذكور.
- تركيب قواطع معيارية تفصل التغذية عند حدّ معين وتمنع تجاوزه وخاصة السخانات.
- استبدال كل لمبات الإنارة المتوهجة بلمبات توفير الطاقة.
- منع استخدام إنارة الزينة إلا في المناسبات الدينية حصراً.
قمع ظاهرة الاستجرار غير المشروع للتيار الكهربائي بشكل حاسم.
- الكشف الدوري على دور العبادة.
وإذا تعذّر تنفيذ المرسوم لجهة الإعفاء، يمكن إلغاء المرسوم من أصله، واحتساب قيمة الطاقة لدور العبادة كما هي الحال لدى باقي الجهات والمرافق العامة الأخرى. ولاسيما أن مديرية الأوقاف وما يصلها من تبرعات وهبات.. قادرة على تسديد التزاماتها المالية تجاه كل الدائنين.
- تسديد جميع الديون المترتبة على مديرية الأوقاف لكل الجهات العامة.
هل تستطيع مديرية الأوقاف أن تسدد ديونها وتتحول إلى مديرية رابحة يمكن أن ترفد خزينة الدولة؟
من المعروف أن وزارة الأوقاف من أغنى الوزارات في الدولة، بسبب التبرعات الهائلة والإعفاءات العديدة التي تمتاز بها. وكمثال على ذلك ما تملكه مديرية أوقاف اللاذقية من عقارات والتي بلغ مجموعها حوالي (900) عقار. وطبعاً العقار الواحد يمكن أن يضم عشرات الشقق والمخازن والمحلات، إذ يكفي أن تتم محاربة الفساد في هذه المديرية من خلال إعادة النظر بالأجور الرمزية البخسة للكثير من العقارات الوقفية لمصلحة وجهاء ومسؤولين وأقارب وأصدقاء، والتي يمكن أن تصل إلى مئات الملايين إن لم نقل مليارات، إضافةً إلى تصحيح أوصاف العقارات مثلاً (عقار مسجل على أنه أرض بعل وهو في الحقيقة صار فيه فيللا ومزرعة وأبنية)، ومع ذلك لم تتغير صفة العقار ولم تزد قيمة الإيجار بسبب الرشاوى.
لقد أحسنت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش صنعاً بأن فتحت ملف الفساد في أوقاف اللاذقية على مصراعيه، بعد أن فاحت رائحة الفساد وأزكمت الأنوف، وهي المؤتمنة على أملاك تبلغ قيمتها مئات المليارات فيما لو تم استثمارها بالشكل الأمثل، ولتفوّقت في ريعيّتها ربما على وزارة الاتصالات.
إن جذر الفساد في هذا البلد المنكوب بسياسة اللا مساءلة واللا محاسبة، يتمثل في غياب الشفافية والديمقراطية وحرية التعبير والإعلام. لقد آن الأوان لتسليط الضوء على الفاسدين وعدم التهيب من مساءلتهم بسبب مواقعهم. فالحصانة لأيّ شخص هي سمعته ونزاهته وأخلاقه، وليس ما يملك أو ما يتبوّأ من مواقع قيادية.