مرفأ طرطوس.. فساد تحت يافطة المصلحة العامة!

مرفأ طرطوس.. فساد تحت يافطة المصلحة العامة!

لم يخرج مرفأ طرطوس عن قاعدة الفساد التي تنخر جسم المؤسسات العامة في البلاد، بل جسّده بأبشع صوره، فالقرارات تصدر بالجملة، وتُباح فيها كل المحظورات، تحت راية «مقتضيات المصلحة العامة»، وتحت هذه العبارة، تم تأسيس وإلغاء مكتب الإشراف على صياٌنة وإصلاح واستثمار الآلات في مرفأ طرطوس بغضون عام واحد

، فإذا كانت المصلحة العامة تقتضي تأسيس المكتب، فهل هي المصلحة ذاتها ما اقتضت إلغاءه؟! وهل انتفت الحاجة إلى المكتب فعلياً؟! خاصة وأن وجود مكتب الإشراف انعكس إيجاباً على عمل المرفأ على أكثر من صعيد! أسئلة بقيت دون إجابة بعد أن فشلنا في لقاء المدير العام للمرفأ بدعوى الاجتماعات المتكررة التي كنا نواجه بها من جانب مدير مكتب المدير العام على مدى يومين متتاليين!

تبدأ القصة بتاريخ 20 حزيران 2012، عندما قررت إدارة المرفأ في حينها إنشاء مكتب الإشراف على صياٌنة وإصلاح واستثمار الآليات، ووضع الدراسات للآليات الواجب توريدٌها للمرفأ، وفق البند 5 و6 من مهام المكتب لاحقاً، وذلك انطلاقاً من أحكام عدد من القوانين، والنظام الداخلي لمرفأ طرطوس، ومقتضيات المصلحة العامة، ويعتبر اقتراح التطوير اللازم لأنواع الآليات المطلوبة تبعاً للاحتياجات التشغيلية في الشركة، واستثمارها بما يحقق أفضل معدلات الأداء، والمشاركة في أعداد الخطط السنوية، وتقديم الاقتراحات والدراسات الخاصة بذلك، من المهام الأساسية لمكتب الإشراف، وهذا ما جعل من دوره محورياً في حياة المرفأ، إلا أن عمر المكتب لم يكن طويلاً، بعد أن صدرت مذكرة من المدير العام بإغلاقه في 31 تموز 2013 دون سابق إنذار.
أجواء مغايرة
لم يكن أحد من القائمين على عمل المكتب في صورة إلغائه، لأنه وبتاريخ 24 تموز 2013 عُقد اجتماع لمكتب الإشراف على الآليات برئاسة المدير العام، وتم فيه التركيز على فوائد المكتب على المرفأ، ليتبيّن خلال الاجتماع ذاته أن للمكتب دوراً كبيراً في توفير الوقود والزيوت، وإطالة عمر الآليات وتقليل أعطالها، رغم أن تجربته التي لم تتعدَ العام الواحد فقط، وفي هذا الجو من التقييم الإيجابي لم يكن أحد بوارد إلغاء المكتب أو بِنية الإدارة اتخاذ مثل تلك القرارات، ولهذا يتساءل متابعون، ما الذي تغيّر حتى تقرر الإدارة إغلاق مكتب الإشراف بعد أسبوع واحد فقط من هذا التقييم الإيجابي؟!.
مقدمات الإلغاء
أولى الخيوط التي استطعنا متابعتها على هذا الصعيد، هي الدراسة الميدانية التي تقدّم بها مكتب الإشراف في المرفأ بتاريخ 29 حزيران 2013 لواقع الأعطال في روافع الليبهر 40 طناً، ورافعة الكوتفولد قدرة 20 طناً، واقترحت الدراسة في حينها إصلاح رافعة ليبهر واحدة، على أن تبقى الثانية كقطع تبديل للأولى ريثما يفك الحصار، أو أن يتم تأمين القطع التبديلية بطرق سليمة وبأسعار مقبولة، لأنه لا يمكن تأمين القطع التبديلية المطلوبة إلا بطرق ملتوية للتغلب على الحصار الاقتصادي، ولاتوجد إمكانية لتأمين القطع من بلد المنشأ مباشرة، وإذا ما استطاعت الإدارة تأمينها، وهي تكفلت بذلك، ستكون بأسعار عالية، وستصل إلى عشرات أضعاف سعرها الحقيقي، أي لا جدوى اقتصادية من عملية الإصلاح في هذه الحالة.
واقترحت الدراسة التحوّل شرقاً نحو الصين وروسيا والهند لتأمين حاجة المرفأ من المعدات الثقيلة التي تعمل على الأرصفة والساحات، ويفضل أن تكون من الآليات الكهربائية بدلاً من الديزل قدر الإمكان، دون إغفال أن الأسعار في الشرق أرخص بكثير في مثيلاتها من الدول، وكذلك القطع التبديلية لهذه الروافع، مذكرة أن التحوّل نحو أوروبا لم يكن لكونها الصناعة الأفضل على هذا الصعيد بل لأن الأوروبيين يدفعون عمولة أما الدول الشرقية فإنها لا تدفع مثل تلك العمولات.
إصلاحات وهمية
يتجاوز عمر الآليات الثقيلة الـ7 سنوات، وكانت تعمل على مدار الـ24 ساعة، وكانت أغلب الإصلاحات وهمية، وتجري بطريقة غير علمية، ولا تتعدى الصيانة تغيير زيت المحرك أو فلاتر، أو الغسيل، وهذا إجراء بسيط من الصيانة العامة المطلوبة لهذه الروافع في مثل هذه الحالات السيئة، مما أدى لانهيارها واحدة تلو الأخرى، خاصة إذا ما عاد المرفأ للعمل بطاقته القصوى، فالعمر الافتراضي لهذه الروافع انتهى، ومن غير المجدي تجديدها مع هذه الأسعار المرتفعة للقطع، لأن الإصلاح سيكلف أضعاف ثمن الرافعة نفسها.
إجراءات انتقامية
على خلفية تلك الدراسة، بدأت الإدارة بإجراءات انتقامية بحق القائمين عليها، فبعد رفع الدراسة الميدانية إلى المدير العام «غزوان رفعت خير بك» بتاريخ 29 تموز 2013، تجاهلت الإدارة تقديم أي رد عليها، بل أعقبتها بمذكرة تطالب فيها بإغلاق المكتب بعد ثلاثة أيام من تاريخ رفعِ الدراسة، مستندة إلى «مقتضيات المصلحة العامة» حسبما أشار كتاب المدير العام، ليليها صدور قرار بنقل جميعٌ الموظفينٌ الذينٌ كانوا يعملون في المكتب، وإغلاق البناء الخاص به.
ولم تكتفِ الإدارة بمثل هذا الإجراء، بل جرى تكليف رئيس المكتب الدكتور محمد حسن- قبل حل المكتب- برئاسة دائرة الآليات التابعة لمديريةٌ الاستثمار في المرفأ، والتي يتمحور عملها حول مراجعة البواخر الموجودة في المرفأ (تفريغ أو تحميل)، وفرز الآليات اللازمة لذلك، وفرز السائقين على هذه الآليات حسب ما يرونه مناسباً، علماً أن مدير الاستثمار يحمل إجازة في علم الاجتماع ، بينما يحمل المدير المكلف شهادة دكتوراه PHD من أعرق الجامعات الفرنسية في علوم الطاقة الحرارية، ويحمل شهادات وخبرات علمية عالية من جامعة فالنسيين كمشرف على بحوث علمية، وعمل مدير الأبحاث والتطوير في أكبر شركة في فرنسا لتصنيع محركات الديزل (سكام ديزل)، أي أن تكليف د. حسن بهذا العمل لن يخدم عمل المرفأ، بل إن القرار تجاهل ما يملك الأخير من خبرات وشهادات وإمكانات، وأصروا على إبعاده عن مكانه الصحيح.
كشف المستور
تمت محاربة مكتب الإشراف المحدث منذ أكثر من عام بشتى الطرق، وعملوا على تسخيف عمله، على الرغم من أنه قدم الكثير للمرفأ، وبقي يقدم حتى آخر لحظة، وبدأت سلسلة المحاربة عبر القول في بادئ الأمر إن إحداث المكتب غير قانوني، وإنه من خارج النظام الداخلي للشركة، وتأتي تلك المحاربة على خلفية ما لمسه المكتب من سوء في طريقة استثمار الآليات، ولأنه وفّر مئات الملايين على المرفأ، عبر توفير الوقود والزيت، وإطالة عمر الآليات، وتقليل الأعطال الناجمة عن سوء الاستثمار، بالإضافة إلى منع المكتب للإصلاحات الخارجية والوهمية من خلال أكثر من دراسة تم رفعها للإدارة، وعمل على أن تكون الصيانة حقيقية، لتكون الدراسة الميدانية لواقع الآليات هي الشعرة الأخيرة التي قطعت بين الإدارة ومكتب الإشراف، وعلى إثرها جرت تصفيته وإلغاؤه.
كثيرة هي النتائج السلبية المحتملة لقرار إلغاء مكتب الإشراف على صيانة وإصلاح واستثمار الآلات في مرفأ طرطوس، وأولها عودة الاستثمار السيئ للآليات، وقد بدأت أولى بشائرها بالظهور على الرغم من أن المكتب لم يكمل الشهرين على إغلاقه، ولم يبقَ هناك من مديرية معنية بتقديم الدراسات الميدانية لواقع الآليات واقتراح تطويرها وجدوى إصلاحها، وهو من أهم بنودها، فالإصلاحات دون دراسة الجدوى كارثة من الكوارث، ولهذا نعيد تساؤلاتنا: من هي الجهة المستفيدة من إلغاء مكتب الإشراف؟! وبمصلحة مَنْ يصب هذا الإلغاء؟! ومن الجهة التي ستجري الدراسات الميدانية لواقع الآليات واقتراح تطويرها وجدوى إصلاحها؟!
وفي النهاية ترامى لنا بأن محركين لرافعتين «الليبهر» تم إرسالهما إلى اللاذقية لمتعهد ما بطلب إصلاح خارجي وكما يقال عندما يعرف السبب يبطل العجب. ولكن العجب الأكبر أن مرفأ يحتوي على 400 مهندس وعدد كبير من الفنيين ليس قادراً على إصلاح محرك ديزل ويرسل بطلب إصلاح خارجي  إلى اللاذقية ؟!. 
وننتظر عودة المحركين لنرصد تكاليف هذا الطلب الخارجي لإصلاح المحركين هل هو مئات الآلاف أم يتجاوز الرقم إلى الملايين وهل الإصلاح هو إصلاح حقيقي؟!.
كما أنه ترامى لنا بأن د. حسن تم تكليفه بوظيفة مدير مساعد لمدير الشؤون الفنية وبقاء المدير المساعد السابق وهذا بحد ذاته مخالف للنظام الداخلي للشركة «وتحت هذه الحجة تم إغلاق المكتب المذكور» ليصار إلى تكليف د. حسن مدير مساعد ثانٍ للمدير الشؤون الفنية، وما يدعو للتساؤل: المدير العام نفسه ليس له إلا نائب واحد، في  حين يمتاز مدير الشؤون الفنية بنائبين؟!