شباب غزّة المهاجر مات مقتولاً
في واحدة من أعذب أغنياته، غنّى وليد عبد السلام لغزّة، المدينة التي لم تخن بلدها. المدينة التي جاعت ولم تقدّم سَمَكها للاحتلال. غزّة، بحق، لا تعرف الخيانة، ولا تحيد عن عهدها، سواء أعجبنا هذا العهد أم لم يعجبنا. للمدينة أسلوب عيش أشبه بالنبوءة وتاريخ هو للمتأمل فيه معركة طويلة تخفت وتشتد. تتعب غزّة من الرّاحة إن كانت مكذوبة أو مشروطة بمهادنة القتلة، ويكون الصّيد فيها مقسماً على يومين: يوم لصيد العساكر والسّمك، ويوم لصيد العساكر والحيتان.
ولأسلوب العيش هذا الذي اضطرت له غزّة، تكلفة باهظة لا يناقض الصّمود أن نتحدث عنها مفصّلين بل ومتفجعين أمام هولها الذي شمل أجيالاً عديدة. هذا حديث من صلب المدينة. فسلاح غزّة اضطرار، وتدرّعها اضطرار، وتخندقها اضطرار، أمّا حصارها ودمارها وتسميم تربتها وقصف أطفالها بقذائف البحر والجوّ والبرّ فليس اضطراراً، بل قرار. قرار يتخذه عدوّ غزّة وفلسطين، ويعيد اتّخاذه بوقاحة مع بزوغ صباح كلّ يوم جديد.
إلى إيطاليا تطير العصافير بعد السّماء الأخيرة
انتشرت بعد العدوان الأخير أخبار عن شبكات تهريب وتهجير للشباب تنشط في قطاع غزّة. والواقع أنّ هذه الأخبار لا تحمل شيئاً جديداً بقدر ما تبرز وترمّز ظواهر موجودة منذ زمن ومرتبطة بنيوياً بالحال القائم سياسياً واقتصادياً في الشريط الساحلي. فليس اكتشافًا للنّار أن في غزّة كثيراً من التشوّهات والتبرّم الجمعي والفردي الحاد من الوضع القائم.
وهذا الترميز الذي نراه اليوم لظاهرة الهجرة، والذي يشمل بعطفه ظواهر أخرى، هو في حلّته القائمة أحد تبعات ما بعد الهزّة الضخمة التي تعرضت لها البنية الاجتماعيّة الغزيّة جرّاء عدوان استمر خمسين يوماً وليلة. لكنّ هذا الترميز، رغم قشرته العاطفيّة السميكة، لا يخلو من مركبات سياسيّة قابلة للاستثمار في اتجاهات متباينة.
يلجأ الشباب الغزّي إلى شبكات التهريب وقد انسدّ أمامه الأفق وبلغت الراديكالية عنده مبلغها عند المقاوم الذي يتصدّى للجيش الصهيوني ـ كلاهما لا يعتبر الموت سبباً كافياً ليرتدّوا عمّا عقدوا العزم عليه. الأوّل يجتاز النفق نحو الشّرق ليصنع ثقباً في الجدار الصهيوني، والآخر يختاره نحو الجنوب ليصنع، على طريقته، ثقباً في نفس الجدار.
تتسلّم شبكات التهريب شباب غزّة الراغب في الهجرة (وبعض العائلات أحياناً) ثم تدخلهم إلى سيناء، ومنها إلى شقق معزولة في الاسكندرية. يعكف المهرّبون بعد ذلك على تجميع حمولات المراكب ثمّ يركب الفلسطينيّون البحر مع آخرين من سوريا، ومصر، وبلدان أخرى، قاصدين الشواطئ الإيطاليّة حيث يطلبون اللجوء ويتوزعون في أركان القارة العجوز الأربعة.
يعرف المهاجرون أنّ احتمال الموت قائم ويهدد كلّ احتمالات الحياة والنجاح في الأرض الأوروبية الجديدة. وللأسف، فإن هذا الاحتمال يتحقق: غرقت سفينة كانت تقل حوالى 180 فرداً قبالة شاطئ العجمي في الاسكندرية ولقي في هذه الحادثة 15 فلسطينياً حتفهم، في حين يخضع الناجون ـ وعددهم 72 ـ للعلاج في مستشفيات مصرية قبل عرضهم على النيابة.
وقبل أن يذوي خبر سفينة الإسكندرية، غرقت سفينة أخرى قبالة شواطئ إيطاليا وعلى متنها حوالى 400 شخص لم يعرف بعد مصيرهم. تحرق هذه الأخبار القلب وتفجّر في وجهنا قنبلة من الحزن الذي يجب، رغم هول المصاب، أن نحرص على كونه حزناً بنّاءً. هذا هو الاشتراط الذي يحقق لنا الازدواج: قدرتنا على أن نحزن على من غرقوا، وقدرتنا، في الوقت نفسه، على إنقاذهم.
والإنقاذ هنا فعلٌ سياسي من الطراز الأوّل. فشباب غزّة المهاجر وعائلاتها لم يموتوا غرقاً في البحر، بل قُتلوا بطريقة بشعة، وقاتلهم معروف. لقد قتلهم المشروع الصهيوني وحلفاؤه، ومن قبله الاستعمار وحلفاؤه. لقد قتلتهم منظومات القهر هذه التي حرمت بلادنا تطوّرها الطبيعي إلى درجة تصير فيها أمينة على أحلام وطموحات كلّ المنتمين إليها.
سيموت من ماتوا في عرض المتوسّط مرتين إن عجزنا عن الإشارة بالإصبع والاسم إلى قتَلتهم وحصرنا ذكرهم وذكراهم بالغرق في عرض البحر، وكأنّ ما دفعهم إلى الهجرة كان زلزالاً أو رغبة مترفة في رؤية الشّاطئ الآخر.
لم يمت هؤلاء غرقاً، بل قتلوا. لقد قتلهم الدولة ـ المسخ التي يتفرّج مواطنوها على قصف غزّة وهم يجلسون على الأرائك ويحتسون المشاريب. لقد قتلتهم هذه الدولة التي تحرم غزّة ميناءها الخاص، فتدفع أهلها إلى ميناء الآخرين. وقتلهم أيضاً كلّ من تحالف أو تواطأ مع مشروع هذه الدولة المسموم وأخّر هزيمته ضمناً أو صراحة.
لن يكون غريباً أن تُنشر أسماء الفلسطينيين المقتولين في عرض البحر في قوائم. لكن الغريب، وما هو واجبٌ فضحه ومقاومته، هو أنّ قوائم المعزّين والمتباكين على هؤلاء ستحمل في طيّاتها أسماء كثير من القتلة.
المصدر: السفير