العدوان على غزة الصامدة: نتنياهو في مأزق وكيري يجهد لإنقاذه من الهزيمة
نجحت المقاومة الفلسطينية، بكافة تشكيلاتها، في استراتيجيتها لاستدراج جيش الاحتلال الصهيوني الى حرب برية وفق قوانين “حرب العصابات،” وكبدته خسائر بشرية ومادية لا يستهان بها، سيما عند الاخذ بالحسبان ان جيش الاحتلال دفع بافضل قوات النخبة لدية، لواء غولاني للقوات الخاصة. وفرضت عليه التراجع مكرها عن غطرسته المعهودة والاعلان عن خسارته “34″ عسكريا (والرقم في ازدياد متسارع)، فضلا عن اقراره بباكورة انجاز المقاومة وتدميرها عدد من احدث مدرعاته، الميركفاة، والابرز أسر احد جنوده كما وعدته المقاومة قبيل العدوان، وارباك حركة الملاحة الجوية من والى مطار اللد.
التحقق من حجم الخسائر البشرية في جانب جيش الاحتلال سابق لاوانه، مع دخول العدوان يومه الثامن عشر، مع الاشارة الى ان مصادر المقاومة تؤكد مقتل ما لا يقل عن 80 جنديا ونحو 360 جندي من الجرحى في الحد الادنى، قيل انها الاكبر في خسارته اليومية العسكرية ميدانيا منذ حرب تشرين 1973. الخسائر البشرية بين الشعب الفلسطيني هائلة بكل المقاييس نظرا لأن العدو “الاسرائيلي” يدرك ان المدنيين هم الخاصرة الرخوة في المسيرة الشاملة لحرب التحرير. لكن عزم الشعب الفلسطيني، بقواه ومؤيديه، على المضي في التصدي للعدوان يدفعه للقول ان ضحاياه هم جزء من ضريبة التحرير ويتمنى نيل الشهادة.
عند كل مواجهة حقيقية مع جيش الاحتلال، منذ تحرير الجنوب اللبناني في أيار 2000 وامتدادا لسلسلة المواجهات المتعددة، يلاحظ مبادرة قيادته السياسية والعسكرية السعي للتوصل لوقف اطلاق النيران، خلافاً لمواجهاته السابقة التي كان العرب هم الطرف الذي يستجدي وقف العدوان، يجري طلبه تارة بوساطة “عربية” وتارة بدخول اطراف دولية اخرى وهذه المرة سينتهي به الأمر الى التسليم بالعناصر الاساسية لشروط قوى المقاومة، واهمها فك الحصار بشكل فوري ونهائي.
وضع الجبهة الداخلية عند العدو الصهيوني لا يطمئن مؤيديه، قياسا على ما اعتاد عليه من صلف وغرور واستهانة بالعرب. اذ سريعا ما اعلن عدد من الجنود والطيارين امتناعهم الخدمة والمشاركة في هذا العدوان، بعضهم قدم للمحاكمات العسكرية، وهم من تربى على عقيدة عسكرية ترمي لحسم سريع للمعركة الأمر الذي اخفق فيه، وتتصاعد الاصابات البشرية بين صفوفه. ويدرك جمهور المستعمرين حجم الاصابات التي تلقاها في مؤسساته ومنشآته، ولم تسلم من التهديد منشآته النووية كرسالة سياسية غير مسبوقة. ومما فاقم المأزق عند قادة الكيان استهتار المؤسسة العسكرية بمصير الجندي الاسير لدى المقاومة الفلسطينية، برفضه الاعتراف بذلك في بداية بالأمر ومن ثم الاقرار بأنه مفقود الى ان تلقى صفعة معنوية من ذوي الاسير الذين اقروا بوقوعه في قبضة المقاومة.
من شأن جملة العوامل التي وردت اعلاه الاسهام في تنامي قلق جمهور المستعمِرين من مستقبل ومصير المواجهة الراهنة، والضغط على “بقرته المقدسة” في المؤسسة العسكرية بوقف العدوان حتى يتسنى له العودة لممارسة حياته الطبيعة بدلا من المكوث في الملاجيء ونزوح عدد لا بأس به من مستعمريه في منطقة النقب الى مناطق اخرى، وتقطع سبل العودة للذين قصدوا السياحة خارج فلسطين المحتلة.
مناورات مغلفة بهدنة انسانية
في المستوى الدولي، استجابت ادارة الرئيس اوباما لاستجداءات قادة الكيان من سياسيين وعسكريين، وباشرت منذ اليوم السادس عشر لبدء العدوان على غزة “اعادة صياغة المبادرة المصرية .. ومعالجة البعد الاقتصادي في غزة شريطة وقف اطلاق الصواريخ؛” وسارعت بارسال وزير الخارجية جون كيري للمنطقة سعيا للتوصل لوقف اطلاق النار. تعثرت المساعي السياسية على الفور برفض قوى المقاومة شروط الاستسلام المطروحة، والاصرار الجمعي على فك شامل للحصار وفتح المعابر توطئة لأي جهد وساطة.
وعليه، جل المشروع الاميركي في هذا الصدد ينصب على انتزاع موافقة قوى المقاومة لوقف اطلاق النار، اوضحه وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي المشترك مع وزير خارجية مصر، ويستند الى عاملين: وقف اطلاق النار لدوافع انسانية تمتد من 5 الى 7 أيام، يليها عقد لقاءات منفصلة بين الجانبين في مصر لمناقشة المطالب الاخرى خلال 48 ساعة.
الآلة العسكرية تستمر بالتدمير
زجت “اسرائيل” بحوالي 5 ألوية قتالية في عدوانها على قطاع غزة، معززة بغارات سلاح الطيران وقصف مدفعي من البوارج الحربية في عرض البحر، وطواقم اسلحة المدرعات والهندسة المنوطة بمهمة تحديد وتدمير الانفاق. واجهت قوى العدوان مقاومة شرسة مدروسة وفق اسس عسكرية يغلب عليها طابع الاحتراف، واوقعت ولا تزال خسائر بشرية مباشرة بين صفوفه، ودفعته للمراوحة في الحيز الجغرافي المفتوح في محيط القطاع وابطاء حركة طواقم قوات الهندسة في التقدم ولجوئها لتدمير المباني السكنية تميهدا لتقدم قوات المشاة.
العربات المدرعة باتت احد الاهداف المفضلة لقوى المقاومة، سيما ما يستخدمه جيش الاحتلال من نماذج عربات قديمة لنقل الجنود هي من صنع اميركي، طراز M-113، التي فتك بها ثوار فييتنام في عقد الستينيات من القرن المنصرم. هيكل العربة مكون من مادة الالومنيوم لخفة استخدامها في الانزالات الجوية وباستطاعتها مقاومة ذخيرة الاسلحة الخفيفة، لا تصلح لقتال حرب الشوارع ولا تستطيع الصمود امام القذائف الصاروخية او الاسلحة المضادة للمدرعات.
لفتت وسائل الاعلام الاميركية انظار الجمهور الى حصيلة مواجهة قتال الشوارع التي دارت رحاها في غزة مع المقاومة الفلسطينية بعد اصابة احدى عرباته المدرعة اصابة مباشرة بقذيفة مضادة للدروع ادت لمقتل 7 جنود صهاينة كانوا على متنها لشن العدوان، اثنين من جنودها كانوا من حملة مزدوجي الجنسية “الاميركية الاسرائيلية.” يشار الى ان حدثا شبيها جرى في قطاع غزة عام 2004 تم فيه تدمير عربات مدرعة لنقل الجند اسفر عن مقتل 11 جنديا صهيونيا دفعة واحدة.
جدير بالذكر ان طبيعة الاصابات التي استهدفت العربة M-113 جاءت من اتجاهات متعددة، من الخلف والجوانب، مما يؤشر على قدرة رجال المقاومة نصب طوق ناري حول عدد من الوحدات الصهيونية الغازية.
اولى نتائج تدمير عربة الجند المدرعة تجسدت في رفض نحو 30 عنصرا من جنود الاحتياط الصهاينة اعتلاء عربة M-113 ان كانت وجهة سيرها نحو غزة، مما حدا بقادته العسكريين اخراج كافة نماذج تلك العربة من ساحات القتال عاجلا. وعلق قائد الجبهة الجنوبية لجيش الاحتلال، سامي ترجمان، قائلا ان جيشه “كان على علم بالثغرات التقنية في عربة M-113 لكنه لم يحصل على الموارد اللازمة لتوفير حماية تامة لكل جندي ينخرط في قتال غزة.” وتتالت في اعقاب ذلك طلبات وتوسلات المؤسسة العسكرية لتخصيص الحكومة مزيد من الموارد المالية الاضافية لشراء عربات قتالية احدث.
بعد خروج عربات مدرعة ناقلة للجند من ارض القتال عمد قادة جيش الاحتلال الى تعويض مفعولها بتكثيف اشد للغارات الجوية والقصف المدفعي والبحري باستهداف منازل المدنيين واتساع الرقعة لتشمل احياء سكنية باكملها، ورمي الحمم النارية على المشردين مما يفسر ارتفاع هائل في عدد الشهداء والجرحى بلغت نحو 6500 مدني، مع بدء اليوم التاسع عشر للعدوان، ومحاصرة بلدة خزاعة بعد ارتكاب سلسلة مجازر فيها.
بيد ان قوات الاحتلال لم تستطع التقدم او التوغل داخل حدود قطاع غزة بالرغم من الكتلة النارية الهائلة وتسخير الموارد البرية والجوية والاقمار الاصطناعية لتيسير تقدم مخططاتها المتعثرة، واستغلال قوات المقاومة مناطق التدمير والانقاض كدروع حامية لاستمرار الاشتباك مع الوحدات الغازية. واكتشف قادة العدو ضراوة المقاومة وابتكارها اساليب متجددة واضطر للاقرار بفعالية شبكة الانفاق وصعوبة اكتشافها وتدميرها.
أحد الصحافيين الصهاينة تندر بتلك الشبكة قائلا ان “غزة استطاعت التمدد ببناء طابق تحت الارض .. انها غزة السفلى،” وشبهتها صحيفة “وول ستريت جورنال” الاميركية بانها “كشبكة مترو انفاق تحت الارض تربط شبكة اخرى من منشآت تصنيع الاسلحة وممرات اسفل الحدود البرية مع اسرائيل على بعد حوالي 2 ميل.” زعم قادة الكيان العسكريين انهم تعرفوا على 10 فتحات انفاق فقط في حي الشجاعية.
صعوبات التقدم الميداني الناجمة عن وجود شبكة الانفاق فرضت على “قادة اسرائيل” اعادة النظر باساليبهم الراهنة لاكتشاف الانفاق. واوضحت صحيفة “تليغراف” البريطانية ان “نخبة من القوات الخاصة من وحدة تلبيوت (حي تل البيوت في القدس المحتلة) عكفت على تطوير نظم لاستشعار الانفاق، بلغت كلفتها نحو 59 مليون دولار، واجرت تجارب عملية عليها” في تل الربيع. واستدركت ان “النظام فائق التطور يستخدم مجسات خاصة واجهزة ارسال لا يزال في طور الابحاث والتطوير، وان نجحت كافة التجارب فبالامكان دخوله الخدمة خلال عام من الزمن.”
من بين المؤسسات “الاسرائيلية” العاملة في هذا المجال، برزت شركة “ماغنا” التي تصنِّع اجهزة مراقبة يجري نشرها على الحدود مع مصر، وكذلك تزود بها المنشآت النووية اليابانية. وحثت الشركة قادة الكيان على حفر نفق بطول 70 كلم على امتداد الحدود مع غزة مزود بنظام انذار حساس من شأنه “توفير اخطارات اولية لاي نشاطات حفر تتقاطع مع النفق، ان كان اسفله او اعلاه.”
ردود الفعل الأميركية
اصدرت قوى المقاومة مذكرة تحذير لحركة الطيران المدني الدولية المتجهة من والى مطار اللد، منذ بدء المواجهة دشنتها بقصف عاصمة الكيان الصهيوني، تل الربيع، بعدة صواريخ. في مرحلة لاحقة من اشتداد العدوان اطلقت صاروخا وقع على بعد مسافة قريبة من محيط المطار مما دفع بهيئة الطيران الفيدرالية الاميركية اصدار اخطار عاجل لشركات الطيران الاميركية المسيرة لرحلات مباشرة الى مطار اللد بتدهور الاوضاع الأمنية، واقتداء معظم شركات الطيران الاوروبية بالمثل؛ بيد ان الرحلات المتجهة من عدة مطارات عربية، عمان والقاهرة والدوحة، الى مطار اللد لم تطبق اجراءات السلامة المقترحة. يشار في هذا الصدد الى ان يعض الشركات الاميركية طبقت اجراءات احترازية بعدم الوصول لمطار اللد قبل اصدار هيئة حماية سلامة الطيران انذارها.
على الفور تحرك نتنياهو حاثا ذراع “اسرائيل” المتمثل بمنظمة ايباك ممارسة نفوذها والتدخل العاجل لالغاء قرار هيئة الطيران المدني نظرا لما يمثله من مخاطر سياسية واقتصادية ومعنوية على بنية الكيان بأكمله. الرئيس الاميركي اوباما ليس في عجله من امره لاثارة مسألة الغارات الجوية مع نتنياهو لادراكه ان الاخير يتكيف مع سياسته في الاغتيالات بطائرات الدرونز، التي لا تزال تحصد الارواح البريئة؛ في آخر حصيلة لها اغتالت 26 مدنيا في باكستان في غضون ايام معدودة.
“استخدام القوة المفرطة” اصبح اتهاما بدون معنى توجهه واشنطن نحو خصومها، وتطبقه بحذافيره الى جانب حليفتها “اسرائيل” بتكرار الاغارة على ذات المواقع الآهلة بالسكان المدنيين لايقاع اكبر عدد من الاصابات بينهم. ولم تصمد الادارة طويلا امام المطالب بضرورة انتقادها لانتهاكات “اسرائيل” نظرا لادراكها انها تنفذ اسلوب الاغتيالات الخسيس عينه في مناطق متفرقة من العالم.
تراكم كلفة العدوان “الاسرائيلي” على غزة حفز قادة الكيان على طلب مساعدات مالية عاجلة بقيمة 225 مليون دولار، اضافة لمبلغ 621 مليون دولار صادق عليها مجلس الشيوخ يوم 17 تموز الجاري؛ ويبدو انها الصيغة المضمرة لتسديد نفقات العدوان من قبل “الوسيط النزيه.”
في مستوى الحركة السياسية، افلحت جهود وزير الخارجية جون كيري باعادة تغليف عناصر “المبادرة المصرية،” وعقد مؤتمرا صحفيا في القاهرة بمشاركة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قدم فيه عرضا بوقف اطلاق النار بدءاً من الساعة 7:00 صباح يوم السبت، لمدة 12 ساعة نزولا عند طلب “هدنة انسانية.” والحقه ببند اضافي يقضي بعقد اجتماع دولي في باريس لبحث تفاصيل وقف اطلاق النار.
فور انفضاض المؤتمر الصحفي المشار اليه ابلغ بنيامين نتنياهو لكيري “موافقته،” ومعارضة طاقم حكومته، لا سيما كتلة وزرائه الموصوفون بالمتطرفين والتي تسعى لاعلاء الحل العسكري واعادة احتلال قطاع غزة. وهذا يعزز ما ورد سابقا بأن العدو الصهيوني درج على استجداء طلب وقف اطلاق النار في كل مواجهة منذ اندحاره عن الجنوب اللبناني، ويكرره الآن في قطاع غزة مما يلفت النظر لفشل مخططاته في انزال ضربة قاصمة بالمقاومة الفلسطينية. الاوساط السياسية الصهيونية وصفت المقاومة الفلسطينية بأنها “غير معنية بالامتثال لوقف اطلاق النار” كونها تحقق نجاحات ميدانية، وان مديات “صواريخها يصل الى عمّان،” اي ابعد مدى من مدينة طبريا. تريثت قوى المقاومة قليلا قبل ان تعلن موافقتها على “هدنة 12 ساعة برعاية هيئة الامم المتحدة.”
اجتماع باريس “الشكلي” ستحضره الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا وقطر وتركيا، وستغيب عنه مصر (صاحبة المبادرة). اعلان كيري من القاهرة جاء بمثابة التفاف على “المبادرة المصرية،” رغم اقتادئه بعناصرها، وتحجيم دور مصر اقليميا عبر استبعادها واستبعاد المقاومة الفلسطينية – هدف المبادرة والاجتماع.
من ضمن ما تؤشر عليه حركة كيري، ولعله الأهم في كافة محطات جولته، هو تيقن الولايات المتحدة من عدم قدرة “اسرائيل” تحقيق اهدافهما الاقليمية – تحجيم والقضاء على المقاومة – وان قوتها التدميرية لا تحقق النصر المنشود بل تراكم الضحايا والقنابل الموقوتة المعادية لسياستها. وربما فقدت اميركا الثقة بوكيلتها واسرعت وتيرة حركتها “لانجاز ما عجزت عن تحقيقه اسرائيل عسكريا” قبل فوات الاوان، سيما لانشغالها في ملفات اخرى ملتهبة، واعادة الاعتبار لمسار المفاوضات الذي ما يلبث ان ينطلق الا وسرعان ما يتعثر ويتراجع.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية