ميسـلـون: التحــدي .. والاستجابة
كم لنا من ميسلونٍ نفضت *** عن جناحيها غبارَ التعبِ
كم نَبت أسيافُنا في ملعبٍ *** وكبَت أفراسُنا في ملعبِ
من نضالٍ عاثرٍ مصطخبٍ *** لنضالٍ عاثرٍ مصطخبِ !
شرفُ الوثبةِ أن تُرضي العُلا *** غلبَ الواثبُ، أم لم يغلبِ
«عمر أبو ريشه»
ربما لا يذكر الجيل الجديد في بلادنا «يوم ميسلون» (24/تموز-يوليو/1920م)، اليوم الذي تقرر فيه مصير الدولة العربية السورية الوليدة بقيادة الملك فيصل بن الحسين، واليوم الذي تهاوت فيه أحلامُ العرب الذين ثاروا على تركيا، آملين بالظفر بالاستقلال والوحدة.
ففي هذا اليوم تجابه الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال «غورو»، مع المتطوعين القلائل الذين قرروا التصدي له بقيادة وزير الحربية «يوسف العظمة»، في «ميسلون» قرب دمشق.
وما كان ممكناً لهم أن يصدوا أحد أقوى الجيوش في العالم آنذاك، لكن وقفتهم الشهيدة الباسلة ظلت حاضرة حية في وجدان الأمة ولم تذهب سدى.
وكما يليق بغازٍ حقود لم ينس ذكرى هزيمة أسلافه «الفرنجة» في الحروب الصليبية، توجه «غورو» إلى قبر «صلاح الدين الأيوبي» في دمشق ليقول بتبجحٍ متغطرس: "ها قد عُدنا يا صلاح الدين"!
كان الاجتياح الفرنسي لسورية، هو الترجمة الطبيعية لاتفاق التقاسم الاستعماري البريطاني- الفرنسي المعروف بـ«سايكس-بيكو»، مع التعديلات التي جرت عليه في مؤتمر «سان ريمون» في ربيع 1920، والقاضي بتقاسم الولايات العربية العثمانية بعد هزيمة «الدولة العلية» -أو «الرجل المريض» كما كان يطلق عليها- في الحرب العالمية الأولى, وتوزيعها كأسلاب بين المنتصرين.
وكانت سورية الطبيعية (بلاد الشام)- بعد اقتطاع بريطانيا لفلسطين والأردن منها, إضافة إلى العراق- من حصة فرنسا, التي باشرت العمل فوراً لتوطيد احتلالها فضمت ثلاث ولايات سورية (بيروت وطرابلس والبقاع) إلى «قائم مقاميّة جبل لبنان» مطلقة على الكيان الجديد اسم «لبنان الكبير»، الذي حولته إلى «جمهورية» فيما بعد.
أما سورية الحالية، فقد جزأتها فرنسا إلى أربع دويلات طائفية: (حلب، جبل العلويين، دمشق، جبل الدروز) ثم فيما بعد – في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي- سلخت لواء «الإسكندرون» لتمنحه لتركيا.
غير أن وحدة قيادة وقوى الشعب السوري الكفاحية الوطنية في مواجهة المستعمر، من كل الأديان والمذاهب الطوائف: (الشيخ صالح العلي، إبراهيم هنانو، محمد الأشمر، حسن الخراط، سلطان الأطرش، عبدالرحمن الشهبندر، هاشم الأتاسي، شكري القوتلي، فارس الخوري... وغيرهم)، ومقاومته المتلاحقة، أحبطت المخطط الفرنسي فحفظت وحدة سورية وأسست لاستقلالها وجلاء المحتلين عام 1946م.
بهذا الاحتلال والتمزيق للوطن، فُتِحَت الطريقُ ومُهِّدت أمام بريطانيا والحركة الصهيونية لإنفاذ «تصريح بلفور» بتمكين اليهود من إنشاء «وطن قومي ودولة» لهم في فلسطين، الأمر الذي تم إنجازه في 15/5/1948م، بالإعلان عن قيام «دولة إسرائيل». وهي «الدولة» التي ما كان ممكناً لها أن تقوم لولا الاحتلال الإنجليزي والفرنسي للمشرق العربي (سورية والعراق) وتجزئته.
وإذ يستعيد أحرار العرب ذكرى «يوم ميسلون» المجيدة فإنهم يستعيدون معها الرسالة المُلهمة التي كتبها يوسف العظمة ورفاقه بدمائهم: رسالة الاستجابة للتحدي الاستعماري بالتصدي والمقاومة، ذوداً عن الحرية والأمة والوطن.
ويستعيدون أيضاً التأكيد على ترابط مصالح الأعداء المستعمرين (القدامى منهم والجدد)، ويجددون التصميم والعزم على تحقيق آمال الأمة في التحرر والوحدة والنهضة.