“داعش” الكبيرة بأخطائنا
سيطرة قوات "داعش" على أجزاء من الشمال العراقي، بعد سيطرتها على الفلوجة سابقاً، وتبخر "الجيش" وقوى الأمن أمام زحف مقاتليها، إنذار مدو بما ينتظر المنطقة برمتها، في القريب العاجل، إن لم تعد دولها النظر في السياسات الخاطئة التي أفضت إلى تضخم أدوار "داعش"، ومثيلاتها الكثيرات، في الإقليم إلى حدود إلحاق الهزائم بالوحدات العسكرية النظامية، في هذا البلد أو ذاك، والسيطرة على مدن كبرى يقطنها الملايين، وإخراجها من نطاق نفوذ الدولة .
ليس مهماً جداً أن يقال، تفسيراً لهذه "النازلة"، إن "داعش" ما كانت لتسيطر على مدينة كبيرة - تعداد سكانها خمسة ملايين - مثل مدينة الموصل لولا أن هجومها أتى مباغتاً، إذ متى كانت الحرب غير هذا؟ وماذا كانت تنتظر القوات النظامية بعد سقوط مدينة الفلوجة في أيدي مقاتلي "الدولة الإسلامية" غير أن تؤخذ على حين غرة؟ ثم كيف قطعت قوات "داعش" كل تلك المسافات للوصول إلى الموصل من دون أن ترصد تحركاتها أجهزة رصد واستطلاع؟ أين "الدولة" العراقية ونظامها الأمني والاستخباراتي؟ ما أسخف التحجج بالمباغتة في مثل هذا المعرض .
الأسخف منه أن يقال إن "داعش" ما كان لها أن تبسط سلطتها على الموصل ثم على تكريت، وما كان لها أن تسيطر، بهذه السهولة، على مناطق الشمال العراقي لولا أنها استفادت من دعم العشائر، ومن مشاركة أبنائها "داعش" قتالها ضد القوات النظامية . من يقول ذلك ينسى أن الرواية هذه، إن صحت، لا تعني غير الأسوأ، والأسوأ هنا أن تحظى حركة مثل "داعش" بدعم وحاضنة شعبيين! وأن يصل اليأس بالناس من نظام سياسي طائفي فاسد إلى محالفة تنظيم "القاعدة"! أي مآل بائس هذا الذي يؤول إليه الاجتماع السياسي العراقي، وأي اجتماع سياسي عربي آخر، في ظل تفكك الدولة الوطنية وانبعاث العصبويات العشائرية والطائفية والمذهبية، وتركيب نظام سياسي من مادتها؟
علينا أن نعترف، أمام هذا الإنذار الخطير، بأن العراق والبلاد العربية تدفع أثماناً باهظة لأخطاء سياسية قاتلة أسهم الجميع في ارتكابها . لم يكن النظام القائم في العراق، اليوم، وحده من لعب الورقة المذهبية فمزق النسيج المجتمعي، وهمش قسماً من الشعب لأسباب مذهبية . فعل آخرون، غيره، ذلك أيضاً: من داخل العراق ومن خارجه . وكانت النتيجة أن الحصان الذي ركبوه في المعركة ضد النظام الطائفي تحول إلى رديف طائفي "عشائري" للنظام، وجاءت "القاعدة" تجني ثمار عصبيته المذهبية . ومثلما دُفع قسم من اللبنانيين إلى تغيير ولاءاتهم من زعامات مثل سليم الحص وعمر كرامي، ومن تيارات سياسية إلى كيانات أخرى مثل "فتح الإسلام" و"جند الشام" وجماعة أحمد الأسير والجماعات السلفية "الجهادية" في طرابلس وعكار، يدفع أهل الأنبار ونينوى وسواهما إلى أن يمحضوا التأييد لجماعات مسلحة مفروضة على بلاد الرافدين، ومسكونة بأفكار لا تنتمي إلى العصر، ولا تعترف بالدولة الوطنية وقيمها المدنية الحاكمة .
وعلينا، ثانية، أن نعترف بأن الذين ساعدوا - بالمال أو بالقرار السياسي - على نشر الفوضى في سوريا، وتشجيع "المعارضة" والجماعات المسلحة على قتال النظام والجيش، قصد إسقاطهما، ساهموا - ربما حتى من دون أن يقصدوا - في تضخم جماعات قتالية مثل "داعش" و"جبهة النصرة" ونظيرات لهما، ومكنوا هذه الجماعات من بيئة خصبة للنمو والانتشار . ويخطئ من يعتقد بأن رقعة الانتشار لن تتجاوز بلادي الشام والرافدين، فهاهم الأوروبيون بدأوا يشعرون بلهيب نيران سوريا تلفحهم، وهم الذين أمعنوا طويلاً في تخريب سوريا وإيذائها قبل أن ينضم إليهم عرب وعجم . لقد كان هؤلاء المقاتلون في أفغانستان قبل ربع قرن، ووصلنا منهم أذى عظيم، في الجزائر ومصر والسعودية واليمن والمغرب، فكيف وهم اليوم في عقر الدار؟
لم تكبر "داعش" فتحرز كل هذه الانتصارات السريعة إلا بأخطاء السياسة قصيرة النظر، فلعلنا نتعظ هذه المرة قبل فوات الأوان .
المصدر: الخليج