لماذا يكثر الحديث عن وقف إطلاق النار في لبنان؟
عماد طحان عماد طحان

لماذا يكثر الحديث عن وقف إطلاق النار في لبنان؟

ارتفعت خلال اليومين الماضيين، وبشكلٍ حاد، نبرة الحديث عن وقفٍ قريبٍ لإطلاق النار في لبنان، حتى أن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، قد رفع الرهان بشكلٍ كبير أول أمس، في لقاء له مع قناة الجديد اللبنانية، قال فيه: «نأمل خلال الساعات القادمة بالوصول إلى وقفٍ لإطلاق النار»، وأضاف أن المبعوث الأمريكي هوكشتين، وفي طريقه إلى الكيان لمتابعة «الوساطة» الأمريكية، قال له: «حتماً اليوم أفضل من الأمس».

وعدا عن تصريحات ميقاتي وهوكشتين، هنالك جملة من التصريحات لمسؤولين من مستويات متعددة في الإدارة الأمريكية تلمح إلى الاتجاه نفسه، ناهيك عن سيل المقالات التي تنشرها مواقع ومجلات غربية، والتي تنفرد كل منها بتقديم «تسريباتها» عن الشروط التي يضعها كل طرف من الأطراف للوصول إلى وقف إطلاق النار، والصيغ المتعددة المتوقعة له.

إذا أخذنا في الحسبان، الخبرة المتراكمة في النفاق الأمريكي/«الإسرائيلي» حول وقف إطلاق النار في غزة طوال عامٍ مضى، وأضفنا إليه ما نراه في الميدان من تصاعدٍ للمواجهة وتصاعد للقصف وتوسيعٍ لنطاقه بالتوازي مع الحديث عن «وقف إطلاق النار»، وأضفنا إليه جملة من العوامل المتعلقة بالضربة «الإسرائيلية» الأخيرة على إيران، وباقتراب الانتخابات الأمريكية، يمكننا أن نخرج ببعض المقاربات التي تفسر ليس اقتراب وقف إطلاق النار، بل ارتفاع نبرة الحديث عن وقف إطلاق النار، والأمران مختلفان اختلافاً كبيراً كما هو واضح...

وإذاً، في حال حاولنا جمع كل هذه العناصر معاً، يمكن القول إن أهداف تكثيف الحديث عن وقف إطلاق النار تتلخص بالنقاط التالية:

أولاً: الرد الذي قامت به «إسرائيل» على إيران مؤخراً، كان عملياً إهانة لـ«إسرائيل» نفسها. رغم ذلك فإن إيران ما تزال تتوعد بالرد على الرد. بهذا المعنى يمكن فهم تصاعد الحديث عن وقفٍ لإطلاق النار، بوصفه محاولة لاستكمال إغلاق حلقة الردود المتبادلة؛ أي استكمال الرد الشكلي الرمزي الذي قامت به «إسرائيل» بحديث مكثف عن وقف إطلاق النار، بما يؤدي إلى الإيحاء بإحداثيات سياسية غير مناسبة لردٍ إيراني جديد، والتعويل على الوقت بحيث تتخامد احتمالات تصادم مباشر جديد.

ثانياً: تضخيم الفقاعة الإعلامية حول جهود إدارة بايدن ونائبته هاريس في العمل على وقف إطلاق النار، من شأنه أن يساهم إلى هذا الحد أو ذاك في إدارة اللعبة الانتخابية الأمريكية، بما يساعد التيار الذي يمثلانه، تيار العولمة المفرطة، في تقليل حظوظ تيار ترامب في الوصول إلى الرئاسة... مع الانتباه إلى أنه ليس من الصحيح اعتبار الانتخابات الأمريكية مركز المسألة ومفتاح فهمها وتفسيرها، ولكن بالضبط لأن الحديث هو عن فقاعة إعلامية، وليس عن تغيير حقيقي على الأرض، فإنه لا غضاضة في البحث عن ربط بين الفقاعتين الإعلاميتين السياسيتين، أي الحديث عن وقف إطلاق النار، والانتخابات الأمريكية.

ثالثاً: تكثيف الحديث عن وقف إطلاق النار، من شأنه أن يغطي إعلامياً على توسع العمليات العدوانية «الإسرائيلية» على مناطق متعددة في لبنان خلال الأسبوع الماضي بشكلٍ خاص، وعمليات التهجير الإضافية التي جرت خلال الأيام الماضية لعشرات آلافٍ إضافية من اللبنانيين من مناطقهم.

رابعاً: إغراق الإعلام بالوصفات والمقترحات المختلفة حول وقف إطلاق النار، بما في ذلك الحديث عن شروطٍ «إسرائيلية» متعددة، من شأنه أن يرفع حدة النقاش/النزاع الداخلي اللبناني حول الخيارات المطروحة، ومن شأنه ضمناً أن يفعل بشكلٍ أكبر، من وجهة نظر الأمريكي و«الإسرائيلي»، عملية الضغط على حزب الله داخلياً، وصولاً إن استطاعوا إلى تفجير لبنان داخلياً.

خامساً: في الإطار نفسه، أي في إطار الضغط على حزب الله من الداخل، فإن رفع آمال الناس الذين أرهقتهم الحرب بطبيعة الحال، خاصة المهجرين منهم، ثم ضرب تلك الآمال، كما جرى مراراً في غزة، من شأنه أن يكون جزءاً من حرب نفسية شاملة تتضمن عمليات متتابعة من رفع الآمال وتحطيمها، بحيث تؤدي في المحصلة إلى انهيار داخلي لقدرات الاحتمال والصمود عند حاضنة المقاومة... أو على الأقل هذا ما يأمله الصهيوني؛ فأن يكون الناس متحضرين نفسياً لحرب طويلة، هو أمر مختلف عن التلاعب بهم عبر خلق آمالٍ وهمية وتحطيمها مرة وراء الأخرى.

سادساً: بالاستفادة من تجربة غزة، فإن الحديث عن وقف إطلاق النار من الجانب الأمريكي قد بدأ بالضبط بوصفه مؤشراً على تحولٍ في طبيعة العدوان «الإسرائيلي»، من الهجوم المركز عالي الكثافة إلى متوسط أو متدني الكثافة ولكن الطويل الأمد، كما سبق أن عبر مستشار بايدن للأمن القومي جاك سوليفان. بكلامٍ آخر، ما يمكن توقعه من الحديث عن وقف إطلاق النار في لبنان، هو أمر معاكس تماماً لاقتراب انتهاء الحرب؛ هو بالضبط اختلاف كثافتها مع تمديد مدتها.

سابعاً: الفيل في الغرفة كما يقال، أو الشأن الأكبر الذي يتم تفاديه في نقاش وقف إطلاق النار، هو تصاعد حجم الخسائر التي يتعرض لها «الإسرائيلي»، وعجزه عملياً عن أي اختراق بري حقيقي للأراضي اللبنانية، وفوق ذلك توسع مساحات تهجير مستوطنيه، وتوسع خسائره الاقتصادية والسياسية على كل المستويات. هذه الأمور مجتمعة، تسمح بالتفكير بأن تصعيد الحديث عن وقف إطلاق النار يمكنه أن يعبر جزئياً عن أن الأمريكي و«الإسرائيلي» يحاولون إبقاء الباب مفتوحاً نحو شكلٍ ما من أشكال التسوية يسمح بإيقاف الاستنزاف القاتل الذي يعيشه «الإسرائيلي»، والذي يحول الحرب التي يخوضها بشكلٍ فعلي، وليس من باب المجاز أو المبالغة، إلى حرب وجودية مع كل يومٍ إضافي تضيفه إلى عدادها.

ثامناً: من زاوية أخرى، وأيضاً بالاستفادة من تجربة غزة، وبالاستناد إلى أن المشروع بالجوهر هو مشروع أمريكي و«إسرائيل» أداة ضمنه، ونقصد مشروع الفوضى الهجينة الشاملة في كامل منطقتنا، ينبغي ألا نستبعد احتمال أن تصاعد الكلام عن وقف إطلاق النار في لبنان، هو جزء من عملية تعمية كبرى، يجري خلالها التحضير لتوسيع المعركة أكثر، وبأشكال أكثر تعقيداً، ربما باتجاه سورية باعتبارها خاصرةً رخوة، خاصة وأن المؤشرات السياسية الأخيرة القادمة من تركيا بما يخص الموضوع الكردي، والقادمة من ثلاثي أستانا بما يخص الوضع في سورية والتسوية السورية التركية، كل ذلك يوحي بأن الوقت المتبقي أمام الأمريكي لتفجير الصواعق في المنطقة لم يعد طويلاً، لأن عملية انتزاع تلك الصواعق جارية على قدم وساق...

بالمحصلة، فإن الحديث عن وقف إطلاق النار، وضمن الإحداثيات السابقة بمجموعها، ما يزال حديثاً صعب التحقيق في أي وقت قريب... ما لم تحدث اختراقات كبرى تغير منظومة الإحداثيات بأسرها... سلباً أو إيجاباً!