الانتخابات الأمريكية... «محوراً لدوران الكرة الأرضية»!

الانتخابات الأمريكية... «محوراً لدوران الكرة الأرضية»!

تجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كما هو معروف، كل أربع سنوات. خلال السنة التي تسبق الانتخابات (كما هو الحال مع هذه السنة)، يمكن لك أن تحلل أي شيء يجري في العالم انطلاقاً من عمليات التحضير لهذه الانتخابات، والتنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبين (س) و(ع) من المرشحين. السنة الأولى بعد الانتخابات، يمكنك أن تحلل أي ظاهرة انطلاقاً من أن «الإدارة الجديدة» ما تزال في إطار وضع «استراتيجيتها» في التعامل مع هذه أو تلك من المسائل، ومن أن الرئيس الذي استلم السلطة يستكمل تكوين فريقه، ويمكنك أن تستند إلى ما قاله خلال حملته الانتخابية لتوقع الاتجاهات العامة لسياسته، وبالتالي توقع الاتجاهات العامة لمختلف أنواع الصراعات على وجه الأرض.

وكي لا ينخفض معدل الإثارة والتشويق، وبمجرد أن تبدأ تلك «الاستراتيجية» بالتكشف، تبدأ التحضيرات لانتخابات الكونغرس التي تجري في منتصف الولاية الرئاسية، وتحدد هل ستكون «البطة الأمريكية» عرجاء أم لا في السنتين المتبقيتين، وبعد هذا التحديد نكون قد بتنا على عتبة التحضير للانتخابات الرئاسية الجديدة، حيث يسعى الرئيس المنتخب لضمان إعادة انتخابه، أو يسعى حزبه للبقاء في موقع الرئيس، ويترتب على ذلك سياسات معيَّنة دون غيرها... ومن ثم يتم إغلاق الحلقة بالعودة إلى السنة الانتخابية الجديدة، وهكذا دواليك...

تواصل هذه المسرحية المكررة عملها، على المستوى الإعلامي بالدرجة الأولى. ويواصل «المتفرجون» عملية الفرجة، ويواصل «المحللون» والمنجمون ترتيب رؤيتنا للعالم ولبلداننا وللصراعات المختلفة، بناءً على هذه المسرحية، إلى الحد الذي بات معه القول بأهمية ومحورية الانتخابات الرئاسية الأمريكية في مسار كوكب الأرض، أشبه بمسلمة الأرض المسطحة قديماً، والتي يُتَّهَم أيُّ أحد يعارضها بأنه مهرطق أو مجنون.

ولكن ما الذي يختفي وراء أكمة الانتخابات الأمريكية والاهتمام المحموم المتواصل بها؟

 أولاً: القول بتأثير الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مصير العالم بأسره، ليس الانتخابات التي ستجري الشهر القادم فقط، بل وكل انتخابات رئاسية أمريكية خلال العقود الثلاثة الماضية بشكلٍ خاص، مشتق من فكرةٍ -هي الأخرى مسلَّمة غير قابلة للنقاش- هي أنّ الولايات المتحدة مَركزُ العالم وهي القوة العظمى الوحيدة، والقطب الأوحد، وعلى مِغزَلِها يلفّ العالم بأسره. وهذا الأمر إنْ كان صحيحاً جزئياً لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ونقول «جزئياً» لأنه لم يكن صحيحاً تماماً في أيّ وقت عبر التاريخ، بما في ذلك في أوسع وأكبر الإمبراطوريات عبر التاريخ، فإنه اليوم بعيد كل البعد عن الصحة؛ فتعدد الأقطاب قد بات واقعاً ملموساً على المستويات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية... صحيح أنه لم يصل إلى ترجماتٍ واضحة مستقرة، إلا أنه بات واقعاً ملموساً ولا يمكن إنكاره... وبالتالي، فإنّ الإصرار على محورية الانتخابات الأمريكية في دوران الكوكب، هو ضربٌ من حالة الإنكار المرضية التي ترفض النظر في الوقائع المستجدة، وتتمسك بالماضي ضمن حالةٍ من الدفاع السلبي، ضد الجديد.

 ثانياً: حتى بافتراض أن الولايات المتحدة هي مركز العالم ومحور دورانه، فإن افتراض أن السلطة الفعلية فيها هي في يد الرئيس أو الكونغرس، هو افتراضٌ ساذج أشدّ السذاجة، وتنقضه الوقائع الملموسة؛ 1- الولايات المتحدة تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي يشكِّلُ المالُ السياسي فيها، وبشكلٍ قانوني تماماً، حجرَ الزاوية في كل عمليات الانتخاب؛ فأصحاب رؤوس الأموال هم من يحددون المرشحين عبر اختيارهم لمرشحيهم وتمويل أولئك المرشحين، بشكلٍ مباشر وبأشكال غير مباشرة عبر الترويج الإعلامي لهم، عبر المحطات والوسائل الإعلامية المختلفة التي يملكونها، والتي هي تقريباً كل وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي. 2- النظام الانتخابي في الولايات المتحدة، هو واحد من أسوأ أنظمة الانتخاب في العالم بمعنى التمثيل الشعبي، فإضافة إلى نظام حزبَي السلطة الذي يشكّل الممرّ الوحيد لأيِّ مرشَّح للوصول إلى التنافس، فإنه نظام تصويت أكثريّ غير مباشر، بحيث لا يمكن للمواطن الأمريكي التصويت على الرئيس بل على البارونات من الحزبين الذين سيختارون الرئيس... أي أن النظام الانتخابي مصمَّم بحيث لا يمكن خرقُه شعبياً... ولعل نسب الاقتراع المنخفضة هي أحد التعبيرات عن فقدان الأمل بالتغيير عبر الانتخابات لدى قسم واسع من الشعب الأمريكي.

 ثالثاً: التجربة الملموسة للرؤساء الأمريكان المتعاقبين، تثبت أنه حتى حين يصل، لسبب أو لآخر، رئيسٌ من خارج «المؤسسة»، فإن قدرته على تنفيذ ما يريد محدودة بشكلٍ كبير (فلنتذكَّر مثلاً قرار ترامب بسحب قوّاته من سورية، والذي أصدره مرتين متعاقبتين، ولم يتم تنفيذه في أيٍّ منهما، وقد أشار جيمس جيفري إلى ذلك وضوحاً حين قال إنَّ ترامب قرَّر ولكنَّ المؤسسة رفضتْ التنفيذ).

 رابعاً: المطبِّلون لأمريكا في منطقتنا، سواء بشكلٍ مباشر أو حتى أحياناً من موقع العداء لها، يقعون مراراً وتكراراً في الخطأ نفسه في تحليل العالَم من زاوية الانتخابات الأمريكية وتأثيراتها... وهذا يعبر إمّا عن إصرارٍ مَرضِيّ على رفض الوقائع المتغيّرة حول العالم، والتمسك بوهم أنّ أمريكا هي الخصم والحكم وهي المنتصر في أيّ صراع قائم. وإمّا أنه يعبِّر عن قصور فكريٍّ وعمليّ، وعن تخلُّفٍ مزمن في رؤية الواقع المتحرِّك.

 وإذاً، هل يعني هذا كله أنّ الانتخابات الأمريكية هي مجرَّد مسرحية لا قيمة لها؟ بالطبع لا، هي بالتأكيد مؤثّرة، وخاصةً في إطار الانقسام الداخلي الأمريكي وتعمّقه والسيناريوهات التي يمكن أن تترتب عليه، وتالياً ما يمكن أن يترتب على السياسة الخارجية الأمريكية. ولكن من حيث المبدأ، فإنّ الاستراتيجيات الأمريكية موجودة دائماً وموضوعة موضعَ التنفيذ، وهي عابرة للرؤساء ولا تتغيَّر بتغيّرهم إلا بحدودٍ طفيفة؛ لأنّ من يدير اللُّعبة بأكملها، ابتداءً من تمويل الحملات الانتخابية، ومروراً بالترويج الإعلامي، وانتهاءً بإدارة الانتخابات، هم المُلّاك الحقيقيون الكبار للدولة والسياسة الأمريكية... أيْ رأس المال الماليّ العالميّ، الذي يتركّز أولاً في أصحاب البنك الفيدرالي الأمريكي، وأصحاب الشركات العملاقة، ليس فقط المجمَّع الصناعي العسكري وشركات التكنولوجيا الكبرى، ولكنْ أيضاً المافيات العالمية للتجارات السوداء التي اندمجت بشكلٍ كامل مع رأس المال المالي العالمي ممّا بعد أزمة 2008...

بالنتيجة، فإن محاولات توقع سيناريوهات الصراع الجاري في منطقتنا، انطلاقاً من الانتخابات الأمريكية؛ مِن اقترابها، مِن إجرائها، مِن الناجح والخاسر فيها، هي بمجملها تضليلٌ عن الحقيقة وتعميةٌ عنها... إذا أردْنا أنْ نقرأ بشكلٍ صحيح السيناريوهات المتوقَّعة، علينا أنْ ننظر في الاستراتيجيات الأمريكية العميقة المنطلقة من مصلحة «النخبة الحقيقية الحاكمة»، والتي لن تغيِّرها الانتخابات الأمريكية...

آخر تعديل على السبت, 12 تشرين1/أكتوير 2024 22:33