الانتخابات البرلمانية الأوروبية ودلالاتها
تؤشر نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة (22-25 مايو/أيار) إلى زيادة تأثير قوى اليمين المتطرف انتخابياً، وانعكاساته على السياسات الداخلية الاقتصادية - الاجتماعية الأوروبية، وعلى توجهات أوروبا الخارجية (دولاً واتحاداً) أيضاً . هذا في الوقت الذي يعاني فيه الاتحاد الأوروبي إشكاليات عديدة تمس مشروعه ومصداقيته على الصعيد الشعبي، وفي مواقف العديد من الأحزاب الوطنية الأوروبية تجاهه.
فقد اعتاد الأوروبيون أن يكونوا على موعد مع استحقاق قاري لانتخاب البرلمان الاتحادي الأوروبي كل خمس سنوات، بوصفه أحد غرفتي السلطة التشريعية العليا في الاتحاد الأوروبي . ويعكس انتخاب هذا البرلمان المزاج الشعبي الأوروبي عموماً، ومواقف القوى السياسية من الاتحاد ومن سياساته الداخلية والخارجية . وتصنف هذه العملية، بأنها أكبر عملية انتخابية في أوروبا، بسكانها البالغ عددهم 400 مليون نسمة، ينتخبون برلماناً مؤلفاً من 751 نائباً منذ عام ،1979 يمثل أقدم المؤسسات التمثيلية الأوروبية، واجتمع للمرة الأولى في ديسمبر/كانون الأول عام ،1952 إثر انتخاب أعضائه من قبل الجماعة الأوروبية للصلب والفحم المشكلة آنذاك من ست دول . فيما يضم حالياً نواباً من 28 دولة يشكلون مجموع دول الاتحاد الأوروبي . ويشكل بالتقاسم مع مجلس الاتحاد أعلى سلطة تشريعية أوروبية وواحدة من أقوى الهيئات التشريعية في العالم.
ورغم أن البرلمان الأوروبي يمثل أعلى سلطة تشريعية، فإنه أقرب في صلاحياته إلى الكونغرس الأمريكي منه إلى سلطة تشريعية كاملة الصلاحيات . إذ يمتلك رسمياً السلطة على ميزانية الاتحاد الأوروبي، وله تأثير غير مباشر في السياسة الخارجية للاتحاد، إضافة إلى موافقته على توصية مجلس الاتحاد حول شخص رئيس المفوضية الأوروبية بالأغلبية البسيطة، وتتمثل في البرلمان الاتحادي الأحزاب الأوروبية المختلفة من يسارها إلى يمينها، ويعكس تمثيلها واقع هذه الأحزاب ومدى نفوذها وتأثيرها الشعبي من جهة، كذلك المزاج الشعبي حول الاتحاد ومواقفه ودوره من جهة أخرى.
ففي الوقت الذي تؤيد فيه الأحزاب الديمقراطية -المسيحية ( يمين الوسط )، والأحزاب الديمقراطية - الاجتماعية (الاشتراكيون أو يسار الوسط) الاتحاد الأوروبي، وهي التي عملت على إنشائه، فإن أحزاب اليسار التقليدي (الشيوعية والعمالية)، وأحزاب اليمين المتطرف لها مواقف سلبية من الاتحاد الأوروبي . فيما تتأرجح مواقف القوى الليبرالية وأحزاب البيئة -الخضر من الاتحاد، استناداً إلى توجهاته ومواقفه، ولا نغفل هنا مواقف الأحزاب الأخرى الصغيرة الممثلة في البرلمان الاتحادي أيضاً.
وينظر المؤيدون إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه قطباً اقتصادياً - سياسياً قارياً ودولياً، يفعل فعله في الساحة الدولية وإشكالياتها، وفي التعاطي مع الأقطاب والتكتلات الاقتصادية الأخرى القائمة . فيما ينظر أصحاب الرؤية الرافضة، أو عدم المؤيدة له، انطلاقاً من التمسك بالهوية الوطنية لكل دولة أوروبية والحفاظ عليها وعلى خصوصيتها وسياستها المستقلة، وصولاً إلى تصنيف بعض هذه القوى للاتحاد بأنه اتحاد الحكومات والأحزاب الرأسمالية.
ورغم تغير تركيبة الحكومات والبرلمانات الوطنية الأوروبية، استناداً إلى العملية الانتخابية وصناديق الاقتراع، ما بين أحزاب يمين الوسط وأحزاب يسار الوسط بشكل أساسي، ومواقف الناخبين من برامج هذه الأحزاب ومدى تحقيقها لمطالب الناخبين وتطلعاتهم، وكيفية معالجة قضاياهم الاقتصادية الحياتية المباشرة، كذلك السياسية أيضاً، فإن انتخاب البرلمان الاتحادي الأوروبي يعكس مواقف شعوب القارة من الاتحاد القائم، ومن دوره وسياساته وكيفية تعاطيه مع الأوروبيين عموماً.
وإذ أظهرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الاتحادي الأخيرة تقدم أحزاب اليمين المتطرف عموماً، وبضمنها دول أساسية في الاتحاد الأوروبي، فإنها تؤشر إلى الموقف الشعبي الأوروبي العام من الاتحاد ومن سياساته وتوجهاته.
فقد شهدت دول الاتحاد الأوروبي تقدم الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا (الجبهة الوطنية) التي حصلت على 25 في المئة من أصوات الناخبين، وتقدمت بذلك على الحزب الاشتراكي الحاكم، فيما عززت هذه الأحزاب من حصتها البرلمانية، مثل "حزب الحرية" في هولندا و"الاستقلال" في بريطانيا و"حزب الشعب" في ألمانيا . . . . الخ وبرز هذا التقدم صارخاً في اليونان في تقدم "حزب سيريزا" اليميني.
وأسهمت الأوضاع الداخلية الاقتصادية الاجتماعية القائمة في أوروبا عموماً، وفي الغالبية الساحقة من دولها أيضاً، في تعزيز مواقف الشارع والأحزاب والحركات الناقدة للاتحاد وتوجهاته وسياساته، وصولاً إلى بروز ميول واتجاهات شعبوية أكثر نقداً وحدة لمواقفه من بعض القضايا وفي الصدارة منها الأزمة المالية العالمية، التي هزت اقتصادات كبرى في القارة الأوروبية، ووضع بعضها على حافة الإفلاس، كذلك الركود الاقتصادي الكبير الذي عاناه الأوروبيون أيضاً.
كما أكدت النتائج الانتخابية الاتحادية فشل حكومات دول الاتحاد في تحقيق مطالب شعوبها، والحد من تفشي البطالة وازديادها، التي وصلت في العديد من البلدان إلى الخط الأحمر، كذلك زيادة أعداد المهاجرين إلى القارة، وبخاصة في دول غرب أوروبا، وفي المحصلة عدم ميل الناخبين إلى التصويت للأحزاب التقليدية.
ورغم أهمية الوضع الاقتصادي - الاجتماعي الأوروبي عموماً، وانعكاساته على المطالب الحياتية - المعيشية للمواطنين الأوروبيين، أي الناخبين، فإن بروز نزعة التطرف تشكل علامة بارزة، ونتيجة للوضع الأوروبي القائم وسياساته، يفترض معالجتها على الصعيدين الوطني والقاري . وفي الصدارة الموقف من تزايد الأجانب وخاصة في غرب أوروبا، وبروز شعارات عنصرية مثل "أوروبا للأوروبيين" ومدلولاتها ومغزاها أيضاً.
هذا الوضع القائم في أوروبا (دولاً واتحاداً) ودلالاته انتخابياً، يشير إلى تنامي الموقف الشعبي المعارض لتوجهات الاتحاد وسياساته والذي أفرز برلماناً اتحادياً يضم كتلة يمينية مؤثرة تنتقد توجه الاتحاد وصولاً إلى مشروع كيانه القائم وهذا ما اضطر هيرمان فان رومبوي رئيس مجلس الاتحاد إلى دعوة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي إلى عقد قمة استثنائية غير رسمية لمناقشة نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية، ركزت في اجتماعها مطلع شهر يونيو/ حزيران، على سلبيات الوضع الأوروبي الداخلي القائم، وعلى مخاطر التطرف المتنامي في القارة الأوروبية ودولها عموماً.
الاتحاد الأوروبي الذي أريد له، أن يكون قطباً اقتصادياً - سياسياً فاعلاً في قارته، وعلى الصعيد الدولي أيضاً، يعاني انتقادات ومواقف شرائح واسعة أوروبية، لأوضاعه الداخلية الاقتصادية - الاجتماعية، ومن مجموع سياساته، التي تمس الأوروبيين أفراداً وشعوباً . وتزداد الأمور سلبية في حال تقييم السياسة الأوروبية الخارجية، التي لم تستطع فعل فعلها في الخريطة الدولية، وفي التعاطي مع الإشكاليات التي يعانيها عالمنا، وتعاني اصطفافات وتجاذبات داخلية، ومن عدم التوافق على مواقف موحدة لأوروبا تجاه العديد من المشاكل المناطقية والدولية وصولاً إلى الانحياز وعدم التوازن، إذ يشير الكثير من المراقبين إلى الاتحاد الأوروبي بأنه قطب اقتصادي ولكنه قزم سياسي . وهذا ما يزيد من نقمة الكثير من القوى الأوروبية ومن مواقف الشارع الأوروبي أيضاً.
المصدر: الخليج