دروس شي جين بينغ من روسيا
فورين أفيرز فورين أفيرز

دروس شي جين بينغ من روسيا

في الرابع والعشرين من حزيران الجاري 2024، نشرت صحيفة «الشؤون الخارجية» الأمريكية Foreign Affairs مقالة طويلة تعبّر في ثناياها مجدداً عن قلق واشنطن المتصاعد من التطوّر المتزايد للعلاقة بين روسيا والصين، وأخذت المقالة شكل استعراض لتاريخ هذه العلاقة منذ عهد ستالين وماو، ومنعطفات التحالف والخلاف بين الشيوعيين الصينيين والسوفييت، ومواقف لشي الأب (والد الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ) حيث رأى المقال الأمريكي بأنّ شي جين بينغ استفاد من دروس التجربة التاريخية لبلاده ولوالده على نحو خاص، باتجاه نهج أكثر مرونة وذكاء في تمتين العلاقات مع روسيا والمواجهة المشتركة للتحديات الغربية التي تهدّد البلدَين وتقودها واشنطن. فيما يلي تترجم «قاسيون» النص الكامل لهذه المقالة.

فورين أفيرز - ترجمة قاسيون

 

في 4 شباط 2022، وقبيل غزو أوكرانيا، سافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين حيث وقّع مع الزعيم الصيني شي جين بينغ وثيقة تشيد بشراكة «بلا حدود». منذ ذلك الحين، رفضت الصين إدانة الغزو وساعدت روسيا في الحصول على المواد اللازمة للحرب من أدوات الماكينات إلى المحركات والطائرات دون طيار. أثارت الشراكة المتنامية بين شي وبوتين تساؤلات جدية في العواصم الغربية. هل عادت التحالفات التي ربطت موسكو وبكين في بداية الحرب الباردة؟ نفى الروس والصينيون هذا الحديث مراراً وتكراراً، لكنهم أكدوا أيضاً أن شراكتهم الحالية أكثر مرونة من الأيام التي كانوا يقودون فيها العالم الشيوعي معاً.

يدرك شي ذلك جيداً. كان والده شي تشونغ شون مسؤولاً رفيع المستوى في الحزب الشيوعي الصيني وكانت حياته المهنية تجسد العلاقات بين بكين وموسكو خلال القرن العشرين، بدءاً من أيام الثورة الأولى في العشرينيات والثلاثينيات، مروراً بالمساعدة المتقطعة خلال الأربعينيات، والتقليد الشامل للنموذج السوفييتي في الخمسينيات، والانقسام العلني في الستينيات والسبعينيات، وصولاً إلى التقارب في أواخر الثمانينيات. أظهرت تعاملات شي الأب مع موسكو مخاطر الحميمية والعداء، وكيف أن الاقتراب الزائد خلق توترات غير قابلة للإدارة أدت إلى نزاع مكلف. من خلال فهم هذا التاريخ، يبدو أن شي الابن يعتقد أن العلاقة الحالية بين موسكو وبكين أقوى بالفعل مما كانت عليه في الخمسينيات، وأنه يمكنه تجنب الضغوط التي أدت إلى الانقسام السابق.

خلال الحرب الباردة، دفعت الأيديولوجية الشيوعية البلدين في نهاية المطاف إلى الانفصال، بينما الآن تجمعهما مجموعة أكثر عمومية من المواقف المحافظة المناهضة للغرب والمؤيّدة لـ«الدولتيّة» statism [الدولتيّة أو مذهب مركزيّة دور الدولة، هو نظام يكون فيه للدولة دور أساسي في التدخّل بإدارة شؤون البلد، وخاصةً الاقتصادية، ومن الواضح هنا أنّ المقصود اتجاهٌ مناهض للّيبرالية الجديدة - المُعرِّب]. في الأيام الخوالي، كانت العلاقات السيئة بين القادة الأفراد تضر بالعلاقة بين البلدين، بينما اليوم جعل شي وبوتين من علاقتهما الشخصية ميزة في الشراكة الاستراتيجية. في ذلك الوقت، كانت متطلبات تحالف الحرب الباردة التي استدعت من كل طرف التضحية بمصالحه من أجل الآخر تحتوي على بذور انهيارها الخاص، بينما يتيح المحور الحالي للتفاهم مزيداً من المرونة. لن تسير الصين وروسيا مرة أخرى بخطى متطابقة كما فعلتا في السنوات الأولى بعد الثورة الصينية، لكنهما لن تنفصلا عن بعضهما بعضاً في أي وقت قريب.

 

العلاقات الخطرة

وُلِد شي جين بينغ في عام 1953 في ذروة تقليد الصين المحموم للاتحاد السوفييتي. كان الشعار الأكثر شعبية في الصين في ذلك العام: «الاتحاد السوفييتي اليوم هو الصين غداً». كان شي تشونغ شون قد انتقل للتو إلى بكين من شمال غربي الصين حيث أمضى معظم العقود الأربعة الأولى من حياته يقاتل في ثورة مستوحاة من ثورة البلاشفة عام 1917. مثل العديد من أبناء جيله، كان شي الأب مخلصاً للقضية رغم العديد من الانتكاسات والتضحيات الشخصية - إخلاص استمر حتى بعد اضطهاده وسجنه من قبل زملائه في الحزب الشيوعي الصيني في عام 1935 لعدم الالتزام بشكلٍ كافٍ بالأرثوذكسية الشيوعية.

أثر انتصار البلاشفة على الراديكاليين الصينيين الأوائل، وقادت موسكو وموَّلت الحزب الشيوعي الصيني في سنواته الأولى. ولكن استقلالية الشيوعيين الصينيين المتزايدة كانت تسير جنباً إلى جنب مع صعود ماو تسي تونغ - وربطت مصير شي تشونغ شون بماو. في رواية ماو، كاد الراديكاليون المدرَّبون من قبل السوفييت أن يدفنوا الثورة في الصين لأنهم فشلوا في فهم الظروف الخاصة للبلد. ادعى ماو أن هؤلاء المتعصبين اضطهدوا شي في عام 1935 كما أسيء إليه هو نفسه في وقت سابق من ذلك العقد عندما تم تهميشه من قبل القادة المتحالفين مع السوفييت في الحزب الشيوعي الصيني.

لم يكن ماو يدعو للانفصال عن موسكو. التقى شي تشونغ شون عدداً قليلاً من الأجانب لمعظم حياته المبكرة، لكن ذلك تغير في أواخر الأربعينيات حيث اكتسحَ الشيوعيون الصينَ خلال الحرب الأهلية الصينية. بدأ شي الأب في التفاعل المستمر مع السوفييت كرئيس لمكتب الشمال الغربي الضخم، المنظمة الحزبية التي كانت تشرف على منطقة شينجيانغ. ساعد الاتحاد السوفييتي الحزب الشيوعي الصيني في بسط القوة العسكرية هناك، وفي كانون الأول 1949، بعد أن فاز الشيوعيون بالحرب ووطدوا السيطرة على البر الرئيسي للصين، اقترح شي بنجاح على قادة الحزب أن تتعاون شينجيانغ مع الاتحاد السوفييتي لتطوير الموارد في المقاطعة. بعد عام، أصبح شي الأب رئيس جمعية الصداقة الصينية-السوفييتية في الشمال الغربي.

فيما حَول وقت ولادة شي جين بينغ، قام الحزب الشيوعي الصيني بأول عملية تطهير كبيرة له - وهي حادثة مرتبطة بشكل وثيق بالاتحاد السوفييتي وبعائلة شي. ذهب غاو قانغ، المسؤول الرفيع الذي كان يُنظر إليه على أنه خليفةٌ محتمل لماو، بعيداً في انتقاداته للقادة الآخرين خلال المحادثات الخاصة. انقلب ماو على تلميذه، وانتحر غاو في النهاية. كان لغاو علاقات وثيقة مع موسكو، ورغم أنها لم تكن السبب في تطهير الحزب منه في ذلك الوقت، إلا أن ماو بدأ يقلق من هذه العلاقات وخلص إلى أنها كانت خيانة. لم يكن خطر العلاقات الوثيقة مع قوة أجنبية حتى لو كانت حليفة قد غاب عن شي تشونغ شون، الذي كان قد خدم إلى جانب غاو في الشمال الغربي وتم اضطهاده معه في عام 1935. كاد شي الأب يسقط معه.

رغم أن مهنة شي تشونغ شون تضرَّرت بسبب مصيبة غاو، إلا أنه تم تكليفه لاحقاً بإدارة عشرات الآلاف من الخبراء السوفييت الذين تم إرسالهم لمساعدة الصين في إعادة البناء بعد سنوات من الحرب. لم تكن تلك مهمة سهلة. كما ذكر شي الأب في خطاب عام 1956، كان لدى هؤلاء الخبراء صعوبة في التكيف مع الصين، وبعضهم «مات، تم تسميمهم، أصيبوا، مرضوا وسُرقوا» - حتى الانتحار كان مشكلة. عندما قرر ماو في العام نفسه أن الهيكل السياسي الصيني كان «سوفييتياً» جداً ومركز الكثير من السلطة في بكين، كُلِّف شي الأب أيضاً من قبل القيادة بوضع خطة لإعادة هيكلة الحكومة.

 

الانقسام

في آب وأيلول 1959، قاد شي الأب، الذي كان آنذاك نائب رئيس الوزراء القوي، وفداً إلى الاتحاد السوفييتي. كان التوقيت غير مناسب. في حزيران، تراجع السوفييت عن وعدهم بدعم برنامج الأسلحة النووية الصيني. كان من المفترض أن يزور شي الأب الاتحاد السوفييتي في وقت سابق من صيف ذلك العام، لكن جلسة عامة للحزب الشيوعي الصيني في لوشان - حيث طال التطهيرُ وزير الدفاع بنغ ده هواي - دمرت تلك الخطط. كتب بنغ رسالة إلى ماو ينتقد فيها «القفزة الكبرى للأمام»، ولم يفسر ماو تصرف بنغ على أنه إهانة شخصية فحسب، بل اشتبه بشكل خاطئ أيضاً في أنّ الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف قد دفعه إلى ذلك. كان بنغ وشي الأب مرتبطان بعلاقات مهنيّة تشكلت في ساحة المعركة في شمال غربي الصين. وكان التطهير الثاني الكبير للحزب الشيوعي الصيني مثل الأول قريباً من عائلة شي ومرتبطاً بشكوك ماو في نوايا السوفييت. ونجا شي الأب مرة أخرى بصعوبة.

منذ عام 1956، كانت التوترات الصينية-السوفييتية تتزايد تدريجياً خلف الكواليس، لكنها انفجرت علناً خلال رحلة شي الأب. في 25 آب، في اليوم نفسه الذي دعا فيه السفير السوفييتي في بكين شي الأب إلى زيارته، قتل الجنود الصينيون جندياً هندياً وجرحوا آخر على الحدود الصينية الهندية. ورغم أن الصينيين خلصوا إلى أن الوفيات كانت عرضية، إلا أنّ السوفييت غضبوا لأنهم اعتقدوا أن العنف سيدفع الهنود بعيداً عن الكتلة الشيوعية ويخيب آمال محاولات خروتشوف لتحقيق التهدئة مع الغرب خلال رحلة قادمة إلى واشنطن.

وصل شي الأب إلى موسكو بعد يومين من العنف على الحدود، وحاول التأكيد على التحالف. في اجتماع خاص مع نائب رئيس الوزراء السوفييتي، حاول تقديم وجهة نظر إيجابية عن القفزة الكبرى للأمام لماو، التي كانت قد بدأت منذ عام. زار معرض الإنجازات الاقتصادية الوطنية، وهو عرض للإنجازات التكنولوجية السوفييتية، ووضع إكليلاً من الزهور على ضريح قائدَي الاتحاد السوفييتي الأوَّلَين، فلاديمير لينين وجوزيف ستالين. بعد قضاء بضعة أيام في أوكرانيا السوفييتية وتشيكوسلوفاكيا، عاد شي إلى موسكو حيث جال وفده في مكتب لينين القديم وشقته في قصر الكرملين الكبير. أخبر ابنه عن تلك اللحظة - ففي عام 2010، عندما زار شي جين بينغ موسكو كنائب رئيس، طلب من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أنْ يأخذه إلى الغرفة نفسها. وفقاً لخبير روسي مطلع، استغرق شي الابن وقتاً طويلاً هناك، وأخبر ميدفيديف أن هذه كانت مهد البلاشفة. ادّعى شي أنّ والده قال إنّ روسيا والصين يجب أن تكونا دائماً صديقتَين.

ومع ذلك، في عام 1959 كان شي تشونغ شون في وسط أزمة في العلاقة. في 9 أيلول، في بكين، أبلغ الدبلوماسيون السوفييت الصينيين عن خططٍ لنشر بيان في وكالة الأنباء الحكومية تاس يأخذ موقفاً محايداً بشأن الاشتباك الحدودي بين الصين والهند. كان الصينيون غاضبين وطلبوا من السوفييت تغيير أو تأخير البيان. لم يرفض السوفييت طلبهم فحسب، بل نشروا البيان في ذلك المساء. غادر شي إلى بكين في اليوم التالي مباشرةً، رغم أنه كان من المفترض أن يواصل قيادة الوفد حتى 18 أيلول. عندما التقى ماو وخروتشوف في الشهر التالي، اشتكى ماو من الحادث قائلاً «أعلنت تاس جعلت جميع الإمبرياليّين سعداء».

كان النزاع هو أول صدع علني في التحالف. في صيف عام 1960، سحب خروتشوف جميع الخبراء السوفييت من الصين، وتم تعيين شي الأب مسؤولاً عن إدارة مغادرتهم. الدرس الذي استخلصه ابنه من الحادثة هو أن الصينيين بحاجة إلى الاعتماد على أنفسهم. في اجتماع في تشرين الثاني 2022 في بالي، وفقاً لدبلوماسي أمريكي سابق رفيع المستوى، أخبر شي جين بينغ الرئيس الأمريكي جو بايدن أن القيود التكنولوجية الأمريكية ستفشل، مشيراً إلى أن وقف السوفييت للتعاون التكنولوجي لم يمنع الصين من تطوير أسلحتها النووية الخاصة.

 

حار وبارد

في عام 1962، نفدت حظوظ شي تشونغ شون وتم طرده من السلطة في التطهير الكبير الثالث للحزب الشيوعي الصيني. مثل غاو وبنغ، اتُهم بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي، رغم أن ذلك لم يكن السبب الرئيسي لمعاقبته. قرر ماو أن الصين، مثل الاتحاد السوفييتي قبلها، كانت تفقد تركيزها على الصراع الطبقي وتم القبض على شي الأب في الدمار الذي أحدثَه ماو رداً على ذلك. في عام 1965، وبينما كان ماو يخطط لإعادة تنظيم مكلفة للمجتمع الصيني لمواجهة حرب محتملة ضد الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة، نُفِيَ شي الأب من بكين إلى مصنع للآلات التعدينية على بعد مئات الأميال في مدينة لويانغ. من المفارقات أنّ ذلك المصنع قد تم بناؤه بمساعدة الخبراء السوفييت وتم وصفه في صحيفة محلية بأنه «تبلورٌ» لـ «الصداقة الصينية-السوفييتية المجيدة».

بشكل عام، قضى شي تشونغ شون 16 عاماً في المنفى السياسي. كان عليه الانتظار حتى عام 1978، بعد عامين من وفاة ماو، ليتم إعادة تأهيله. بصفته رئيس منظمة الحزب في مقاطعة غوانغدونغ، حذَّر شي الأب الأمريكيين من أنهم بحاجة إلى أن يكونوا أقوياء لصد العدوان السوفييتي. في رحلة إلى الولايات المتحدة في عام 1980، أثار إعجابَ نظرائه الأمريكيين بآرائه المناهضة للسوفييت وقام برحلة إلى مقر قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية (NORAD) في كولورادو حيث أخذ ملاحظاتٍ وافرة. بصفته عضواً في المكتب السياسي المسؤول عن إدارة العلاقات مع الأحزاب الأجنبية التي كانت ثورية يسارية أو شيوعية بطبيعتها، ساعد شي الأب في قيادة المنافسة بين بكين وموسكو على النفوذ في جميع أنحاء العالم. كما أدار شؤون التبت، وفي النصف الأول من الثمانينيات، كان قلقاً بشأن التأثير السوفييتي على الدالاي لاما. لكن بحلول عام 1986، مع تحسن العلاقات، كان شي يشيد بإصلاحات الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف ويعرب عن أمله في تحسين العلاقات.

 

ما الذي استخلصه شي جين بينغ من هذا التاريخ؟

في عام 2013، في أول رحلة له إلى الخارج بعد أن أصبح زعيماً أعلى، ذهب إلى روسيا حيث تحدث بحرارة إلى مجموعة من علماء الصينيّات الروس حول زيارة والده عام 1959. قال إن الصور من تلك الرحلة دُمِّرَت خلال الثورة الثقافية، لكن والدته احتفظت بالهدايا منها. أوضح شي الابن أنه، وعلى الرغم من كون العديد من المراقبين يعتقدون أن جيله موجَّه نحو الغرب، إلا أنه نشأ على قراءة أدبَين، الصيني والروسي. بعد أن نُفي إلى الريف كـ«شاب مرسَل» خلال الثورة الثقافية، قضى شي أيامه في قراءة الروايات الثورية الروسية، وكانت إحدى رواياته المفضلة هي «ما العمل؟» لنيكولاي تشيرنيشيفسكي [التي يقال إنّ لينين استوحى عنوانها أيضاً لكتابه الشهير «ما العمل؟» - المعرِّب]. ادعى شي لاحقاً إنه يحب شخصية راخماتوف، المتعصب الثوري الذي كان ينام على المسامير ليقوي إرادته. مدعياً الإلهام، قال إنه تجول في العواصف الممطرة والعواصف الثلجية خلال وقته في الريف.

لكن في حديثه مع علماء الصينيّات الروس في عام 2013، لم يذكر الحالة البائسة للعلاقات الصينية-السوفييتية في وقت قراءته الروسية. في عام 1969، عندما تم نفيه إلى الريف، كانت الصين والاتحاد السوفييتي يخوضان حرباً حدودية غير معلنة، وكان هناك حتى مخاوف من هجوم نووي سوفييتي. ولم يخبرهم عن وظيفته الأولى بعد تخرجه من الجامعة حيث عمل سكرتيراً لجينغ بياو، السكرتير العام للجنة العسكرية المركزية. كان جينغ ينظر إلى موسكو بحذر. في عام 1980، في اجتماع في بكين، قال وزير الدفاع الأمريكي هارولد براون لجينغ إنه عندما يتعلق الأمر بوجهات نظر الجانبين حول الاتحاد السوفييتي، «يبدو لي أن طواقمنا كتبت أوراقنا النقاشية معاً».

 

المثير الأيديولوجي

نظراً لحالة العلاقات بين روسيا والصين والولايات المتحدة اليوم، من الصعب تخيل أنّ شي جين بينغ قضى جزءاً من سنوات مراهقته في حفر ملجأ من الغارات الجوية تحسباً لهجوم سوفييتي محتمل - أو بالمثل أنّ والده كان قد دُعي لرؤية قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية (NORAD). إنّ تقلبات مثلث واشنطن-بكين-موسكو على مدى الـ 75 عاماً الماضية دفعت البعض إلى الأمل في أن يتمكن شي الابن بطريقة ما من كبح دعمه لروسيا. لكن أولئك الذين يأملون في إعادة إنتاج الانقسام الصيني-السوفييتي من المحتمل أن يصابوا بخيبة أمل.

لسبب واحد، فإن المثير الأيديولوجي غائب في الغالب عن العلاقة الآن. صحيح أن أيديولوجيا الشيوعية المشتركة كانت بمثابة غراء استثنائي للصين وروسيا في السنوات التي تلت عام 1949. لكن مع مرور الوقت، جعلت الأيديولوجيا من الصعب على البلدين إدارة خلافاتهما. كان ماو لديه عادةُ تفسيرِ الخلافات التكتيكية على أنها خلافات أيديولوجية أعمق. جاء ماو ليعتقد أن السوفييت لم يدعموا موقف الصين القتالي تجاه الغرب لأنهم أصبحوا «تحريفيين». وبين الشيوعيين، كانت اتهامات البدعة النظرية مدمّرة. عندما تشاجر ماو وخروتشوف حول إعلان تاس في أكتوبر 1959، كان ادعاء وزير الخارجية الصيني تشين يي بأن السوفييت كانوا «مؤقتين» هو ما أغضب خروتشوف بشكل خاص لأنه شكك في مؤهلاته الشيوعية من خلال تصويره كخائن للمشروع الثوري. هناك الكثير من الحقيقة في ادعاء المؤرخ لورينز لوثي بأنه «من دون الدور الحيوي للأيديولوجيا، لم يكن التحالف قد تأسس ولا انهار».

إنّ النخب الصينية والروسية تعتبر الترويج للديمقراطية تهديداً وجودياً. وعلاوة على ذلك، بمجرد دخول الخلافات الأيديولوجية إلى المعادلة، أصبح من الصعب الحديث عن أي شيء آخر، جزئياً لأن النقاشات حول الأيديولوجيا يمكن أن تنطوي على دعوات لتغيير النظام. في عام 1971، بعد محادثة مثمرة نسبياً مع دبلوماسيين سوفييت، انفجر رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي عندما أثار أحدهم مسألة مقالة في صحيفة الشعب اليومية التي اعتقدوا أنها دعت الشعب السوفييتي إلى بدء ثورة. أشار تشو إلى أن الاتحاد السوفييتي كان يستضيف وانغ مينغ، قائد الحزب الشيوعي الصيني المبكر الذي اشتبك مع ماو وتم نفيه فعلياً. «تعتقد أننا نخاف منه»، قال تشو. «إنه أسوأ من القذارة!» عندما طلب أحد الدبلوماسيين السوفييت من مشارك صيني التوقف عن الصراخ قائلاً «الصراخ ليس حجة»، ردّ الدبلوماسي الصيني: «إذا لم يكن هناك صراخ، فلن تستمعوا».

ومع ذلك، فإن روسيا اليوم بعيدة عن مبادئ الشيوعية، بلطف. رغم أن بوتين وصف مرة انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه «كارثة جيوسياسية»، إلا أنه غالباً ما يكشف عن آراء سلبية تجاه الحزب الشيوعي السوفييتي. في خطابه عشية غزو روسيا لأوكرانيا، ألقى باللوم على لينين في إنشاء أوكرانيا الحديثة وتحدث عن «ديكتاتورية» ستالين و«النظام الشمولي». من ناحية أخرى، لا يزال شي جين بينغ يأخذ إرث الشيوعية على محمل الجد. وفقاً لدبلوماسي أسترالي، وجد الدبلوماسيون الروس الأمر غريباً عندما اقتبس لهم شي في إحدى المناسبات من الرواية الثورية الروسية «كيف سقينا الفولاذ». رغم أنه ليس متعصباً، يهتم شي بعمق بالأيديولوجيا، وقد ألقى باللوم في انهيار الاتحاد السوفييتي جزئياً على فشل موسكو في ضمان أنْ يأخذَ الناس الماركسية-اللينينيّة على محمل الجد.

على الرغم من هذه الاختلافات المهمة، تشترك النخب الصينية والروسية في رؤيةٍ محافِظة للدولة. يرون الهجمات على تاريخهم كمؤامرات غربية لنزع الشرعية عن أنظمتهم، ويعتبرون الترويج للديمقراطية تهديداً وجودياً. يقدِّرون القيم التقليدية كحاجزٍ ضدَّ عدم الاستقرار، ويعتقدون أنَّ الغرب يمزّق نفسَه بالصراعات الثقافية. كلاهما استنتج أن الأنظمة السلطوية أفضل في التعامل مع التحديات الحديثة. كلاهما يريد لبلاده أن تستعيد مكانتها المفقودة وأراضيها المفقودة. بوتين وشي يدوّران عجَلَة الرواية التبريرية نفسها، مدّعِيَين أن أسلافهما سمحوا بتدهور لا يمكن تحمّله (ومؤثر من الغرب) للسلطة التي يمكن فقط لحكمهما القوي أن يوقفها.

 

الرجل لرجل

عامل آخر يربط موسكو وبكين اليوم هو العلاقات الدافئة بين بوتين وشي. وسائل الإعلام الصينية والروسية تروّج لعلاقة شخصية قوية بين القائدين، رغم أنه من الصعب تحديد مدى صدق هذه الصداقة المفترضة. بوتين تدرب كعميل في جهاز الاستخبارات السوفييتي KGB وهو تدريب علمه كيفية إدارة الناس، وكان من الممكن أن يتعلم شي حيلاً مشابهة من والده، الذي كان سيداً في جهود «الجبهة المتحدة» للحزب لكسب المشككين. بوتين وشي شخصان مختلفان جداً. بوتين كسر ذراعه مرة وهو يُقاتل مشاكسِين في مترو لينينغراد. أظهر شي باستمرار ضبطاً استثنائياً للنفس، كما يتضح من قدرته على الوصول إلى السلطة دون أن يعرف أحد ما يفكر فيه حقاً. يستمتع بوتين بالحياة الفاخرة بينما يبدو أن أسلوب شي الشخصي يميل إلى التقشف. لكن على الأقل، العلاقة الوظيفية بين القادة الروس والصينيين هي شيء من الشذوذ التاريخي.

بالنسبة لماو، كانت مؤهلات ستالين الأيديولوجية وإسهاماته في تاريخ الاتحاد السوفييتي تجعله عملاقاً في العالم الشيوعي. ومع ذلك، فإن موقف ستالين الحذر تجاه الثورة الصينية في النصف الثاني من الأربعينيات كان يزعجه. وكذلك الحال مع تعامله المتعالي خلال مفاوضات معاهدة التحالف بين البلدين في عامي 1949 و1950. بعد وفاة ستالين، شعر ماو أن مكانته تتجاوز مكانة خروتشوف بكثير، وتعامل مع نظيره السوفييتي بازدراء.

كان ماو معجباً بصلابة تلميذه دنغ شياوبنغ التي أظهرها خلال النقاشات المطولة حول الأيديولوجية في موسكو في الستينيات، عندما كان دنغ أبرز مهاجم لبكين على المسرح العالمي. بعد وفاة ماو، لاحظ دنغ أن الدول القريبة من الاتحاد السوفييتي كانت لديها اقتصادات مختلة، بينما ازدهرت الدول الحليفة للولايات المتحدة. عندما أصبح دنغ زعيم الصين الأعلى، كان العديد من مساعديه يأملون في علاقة أفضل مع موسكو، لكن دنغ تجاهل هذه الأصوات. التقى هو وغورباتشوف مرة واحدة فقط –خلال احتجاجات ميدان تيانانمن– واستنتج دنغ أن الزعيم السوفييتي «أحمق». بعد أن انهار الاتحاد السوفييتي وأصبح بوريس يلتسن رئيساً لروسيا، كان الصينيون في البداية متشككين منه نظراً لدوره في المساعدة على انهيار الشيوعية، لكن العلاقات بين القادة الكبار تحسنت تدريجياً. خلف دنغ، جيانغ زيمين، درس في الاتحاد السوفييتي وكان يستطيع غناء أغاني الصداقة الصينية السوفييتية القديمة.

العلاقات الشخصية الدافئة ليست السبب الرئيسي في تقارب روسيا والصين اليوم، لكن الماضي يظهر بالتأكيد أنّه عندما يزدري القادة الفرديون نظراءَهم والبلدانَ التي يقودوها نظراؤهم فإنّ هذا الأمر يحدث فرقاً. وعلى الرغم من اختلافاتهم، ليس من الصعب تخمين سبب توافق بوتين وشي على المستوى الشخصي. إنهما تقريباً في العمر نفسه، وكلاهما أبناء رجال ضحوا من أجل بلدانهم. وربما الأهم من ذلك، كلاهما لديه تجارب تكوينية حول مخاطر عدم الاستقرار السياسي. خلال الثورة الثقافية، تم اختطاف وضرب شي وأسرته من قبل حراس ماو الحمر، بينما في عام 1989، شاهد بوتين، الذي كان ضابطاً في الكي جي بي في دريسدن، انهيار ألمانيا الشرقية من حوله بينما لم يكن يحصل على توجيهات من موسكو. لدى الاثنين الكثير للحديث عنه عندما يصنعان البليني والزلابية معاً أمام كاميرات التلفزيون. [البليني الروسية: فطيرة صغيرة مصنوعة من الخميرة ودقيق الحنطة السوداء. والزلابية الصينية: معجنات صغيرة تصنع من الخبز والطحين والبطاطا، وأحياناً تضاف لها اللحوم أو الأسماك - المعرِّب].

 

التشارك في فريق

المرونة الأكبر في علاقة الشراكة بين بكين وموسكو اليوم، تجعلها أيضاً أكثر متانة مما كانت عليه في الماضي. منذ عام 1949، كان التحدي الاستراتيجي المركزي هو كيف يمكن للقوتين، اللتين تشكلان معاً قلب أوراسيا الاستبدادي، التعاون بشكل فعال ضد تهديد المحيط الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة. على الرغم من القوة الاستثنائية لموقف واشنطن في جوارهما، كافحت بكين وموسكو لتحقيق هذا التنسيق بشكل صحيح. مراراً وتكراراً، أثبتتا عدم استعدادهما للتضحية بمصالحهما من أجل بعضهما بعضاً، مدفوعتين جزئياً بشكوك كلّ منهما في أن الأخرى تخونها وتسعى إلى تحسين العلاقات مع الغرب.

قبل الانقسام الصيني السوفييتي، خلق التحالف بين موسكو وبكين مشاكل حقيقية للولايات المتحدة وفوائد حقيقية للقوتين. سمحت الحدود الهادئة بين البلدين لهما بالتركيز على مواجهة الغرب ومشاركة التكنولوجيا العسكرية. في عام 1958، عندما هاجمت الصين تايوان في محاولة للسيطرة على الجزيرة، قدم خروتشوف المساعدة لبكين عن طريق التحذير العلني بأنه سيتدخل لحماية الصين إذا دخلت الولايات المتحدة في النزاع – رغم أنه كان مستاءً من أن بكين لم تخبره بخططها مسبقاً.

 

دروس التاريخ

باعتباره ابن رجل كان له دور كبير في علاقة بلاده مع موسكو، يعرف شي جين بينغ تاريخه. أظهر الماضي مخاطر كل من الاحتضان المتهوِّر والعداء الكامل. الآن، يريد شي أن يكون له الكعكة ويأكلها أيضاً – يقترب بما يكفي من روسيا لإثارة مشاكل للغرب، لكن ليس بما يكفي لأن تضطر الصين إلى الانفصال تماماً. ليس من السهل خبز هذه الكعكة، وقد تصبح أكثر صعوبة. تحاول واشنطن جعلها صعبة قدر الإمكان من خلال طلاء روسيا والصين بالفرشاة نفسها، وتصور الصين (بشكل صحيح) على أنها تسهِّل حرب روسيا في أوكرانيا. كبّدَ النزاع بكين تكاليفَ حقيقية في اقتصادها وسمعتها، حتى عندما تتجنب بعض طلبات موسكو.

توجد مشاكل في أي علاقة، خاصة بين القوى العظمى. ما يختلف عن الحرب الباردة هو أن القضايا الأيديولوجية والشخصية الشائكة لم تعد تجعل هذه التحديات صعبة للغاية في الإدارة. في غياب الأحداث ذات التأثير الكبير ولكن ذات الاحتمالية المنخفضة – مثل استخدام سلاح نووي في أوكرانيا، انهيار الدولة الروسية، أو حرب على تايوان – ستناور الصين على الأرجح ضمن المعايير العامة التي وضعتها بالفعل للعلاقة. أحياناً ستلمح بكين إلى علاقة وثيقة مع موسكو، وأحياناً أخرى ستلمح إلى علاقة أكثر بعداً، وتعدّل رسالتها وفقاً لما تتطلبه الحالة. من جانبها، قد تتمكن الولايات المتحدة من تشكيل بعض حسابات الصين وتحديد أنواع المساعدة التي تتلقاها روسيا. ولكن في المستقبل المنظور، من المرجح أن يُثبِتَ نموذجُ شي للعلاقات الصينية الروسية أنه أكثر متانة من الماضي، لأنه، ربما بشكل غير متوقع، يتجنب خطر الحميمية.

 

آخر تعديل على الأحد, 04 آب/أغسطس 2024 23:15