النشاط الصيني الهندي في حل الأزمة الأوكرانية
تلعب الصين اليوم دوراً متزايداً في السياسة العالمية، وفي إرساء السلم في أرجاء الكوكب، بعدما كانت تنأى بنفسها عن الصراعات العالمية في وقت سابق، فبعد جهودها المثمرة في تحسين العلاقات الإيرانية السعودية، تتزايد جهودها اللافتة في حل الأزمة الأوكرانية ويأتي ذلك على خلفية المبادرة الصينية التي قدمت العام الماضي، رغم ممانعة الولايات المتحدة للدور الصيني في السلام عالمياً وهي التي تعمل على تغذية النزاعات في كل بقاع الأرض.
وتنضم الهند اليوم إلى الصين في جهودها لإحلال السلام خروجاً عن حيادها الذي كان فيه ابتعاد عن مجرى الصراع، ورغم أن الدور الهندي يبدو محدوداً نسبياً بالمقارنة مع المبادرة الصينية، إلا أنه يعتبر جزءاً هاماً من الضغوط التي تمارس في سبيل تثبيت نوع جديد من الدبلوماسية الدولية متعددة الأقطاب.
منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان إن "قرار الحكومة الأمريكية بشأن توسع الناتو باتجاه الشرق يرتبط بشكل مباشر بالأزمة الحالية في أوكرانيا"، مضيفاً: "مفتاح حل الأزمة الأوكرانية في أيدي الولايات المتحدة والناتو، وتأمل الصين أن تقف الولايات المتحدة بجانب السلام والعدل مع معظم الدول النامية في العالم، لتخفيف حدة الوضع في أوكرانيا". وذكر أن "موقف الصين تجاه القضية الأوكرانية نزيه وموضوعي، والدول التي يجب أن تشعر بعدم الارتياح حقاً هي الدول التي تعتقد أنها انتصرت في الحرب الباردة ويمكنها السيطرة على العالم، وتتجاهل مخاوف الدول الأخرى، وتستمر في دفع توسع الناتو من خلال خمس جولات من التوسع باتجاه الشرق".
تسعى الصين لخلق نظام عالمي متعدد الأقطاب تَجَسّد بسياستها التي سعت على الدوام لمحاربة التفرد الأمريكي في عملية صنع القرار العالمي. انطلاقاً من هذا الجانب، سعت الصين لتعزيز علاقاتها مع دول تعتبرها الولايات المتحدة معادية لها. فنجدها توقع شراكة اقتصادية استراتيجية مع إيران، توازيها شراكة استراتيجية مع روسيا، بالإضافة إلى تحالف بريكس، في سعي لخلق جبهة منافسة قادرة على التأثير في حال تكاتفت الجهود فيما بينها.
وتتمحور السياسة الخارجية الصينية حول عدة مبادئ أهمها: عدم التدخل في شؤون ونزاعات الدول الأخرى، ومراعاة الوضع الحالي القائم للنظام العالمي، ومراعاة المنافسة بين القوى الكبرى.
حيث لم تؤيد الصين قرار روسيا بالاعتراف بالأقاليم التي انفصلت عن أوكرانيا، وفي الوقت نفسه لم تدن ذلك، كما أنها لم تدن إرسال روسيا قواتها إلى أوكرانيا. كما رفضت وزارة الخارجية الصينية وصف العمليات العسكرية الروسية بأنها غزو.
كما تمتلك الصين علاقات قوية مع الطرف الأوكراني وتريد أن تحافظ عليها، فأوكرانيا تعتبر من الدول المهمة للمشروع الصيني الاقتصادي الكبير المسمى الحزام والطريق.
وامتنعت الصين عن التصويت على قرار يدين العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا في كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وأعلنت رغبتها وأمنيتها بحل النزاع بالوسائل السلمية. وأكدت الصين على ضرورة التعامل بجدية مع المخاوف الروسية المتمثلة بتوسع حلف شمال الأطلسي ووصوله إلى حدودها رغم الضمانات الشفوية التي قدمتها الولايات المتحدة للروس إثر انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بأن حلف الناتو لن يتوسع بالحد الذي يشكل تهديداً لروسيا.
وعادت الصين مع مرور عام على الحرب في أوكرانيا في آذار 2023 لتأكيد رغبتها في التوسط من أجل تحقيق السلام. حين اعتبر وزير خارجية بكين وانغ يي أن العلاقات الصينية-الروسية هي "العلاقة الثنائية الأكثر أهمية في العالم إذ من شأنها أن تفضي إلى السلام والاستقرار والتنمية في العالم"، مضيفاً أن الصين ترسل مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا وهي "على استعداد للعمل مع المجتمع الدولي للقيام بالوساطة اللازمة".
كان ذلك أثناء عرض مقترح الصين للسلام في أوكرانيا، حيث ذكر المقترح ضرورة احترام سيادة الدول كافة، ونبذ عقلية الحرب الباردة، ووقف القتال والصراع، وحل الأزمة الإنسانية. وأنه من ضمن المقترح الحفاظ على سلامة المحطات النووية، وضمان تصدير الحبوب، والتخلي عن فرض العقوبات أحادية الجانب، وإعادة الإعمار بعد النزاع، وضمان استقرار سلاسل الصناعة والإمداد. بالإضافة إلى تأكيد ضرورة استئناف الحوار المباشر بين روسيا وأوكرانيا في أسرع وقت ممكن.
تتكون هذه الوثيقة من 12 بنداً من أهمها البند الأول والذي ينص على ضرورة احترام سيادة الدول كافة، وأن جميع الدول متساوية، بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها، وأنه يجب تطبيق القانون الدولي بشكل موحد والتخلي عن المعايير المزدوجة.
والبند الثاني يطالب بنبذ عقلية الحرب الباردة، مشيراً إلى أنه لا يمكن ضمان أمن دولة ما على حساب أمن الدول الأخرى، ولا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز الكتل العسكرية وتوسيعها، وأنه من الضروري احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية لجميع البلدان ومعالجتها بشكل مناسب.
والبند الثالث يدعو إلى وقف القتال والصراع. وأوضحت بكين في هذا البند أنه لا رابح في الصراعات والحروب، وأنه يجب على جميع الأطراف التحلي بالعقلانية وضبط النفس، وعدم صب الزيت على النار، وعدم السماح بمزيد من التصعيد وخروج الأزمة الأوكرانية عن السيطرة، مؤكدة الحاجة إلى استئناف الحوار المباشر بين موسكو وكييف في أسرع وقت.
وعادت الصين إلى تعزيز جهودها من أجل إحلال السلام مع دخول الحرب عامها الثالث مع قيام الممثل الخاص للحكومة الصينية للشؤون الأوراسية، لي هوي، بجولة أوروبية لمعرفة ما إذا كانت بكين قادرة على العمل كوسيط بين روسيا وأوكرانيا. حيث عبرت عن إصرارها على دعوة روسيا لحضور قمة السلام حول أوكرانيا في سويسرا، إذ أخبر لي هوي، ممثلي الاتحاد الأوروبي أن القمة "لا يمكن أن تكون مؤتمراً يتم فيه تطوير خطة لخنق الروس".
وخلال مؤتمر مشترك مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في الأول من نيسان الجاري، أعرب وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه عن أمله في أن ترسل الصين إشارات واضحة إلى روسيا لحل النزاع في أوكرانيا، وإحلال السلام الدائم في أوروبا. وأضاف أن الصين يمكنها أن تلعب "دوراً رئيسياً" في تطبيق القانون الدولي.
يبدو أن الجولة الأوروبية التي قام بها لي هوي قد حققت نتائج. فقد قال، في مؤتمر صحفي عقب رحلته، إن السلطات الصينية تعد المهمة الأكثر إلحاحاً وأولوية هي التوصل إلى حل سلمي للصراع في أوكرانيا، و"نأمل في شكل من التعاون الدولي تعترف به كل من روسيا وأوكرانيا، وتشارك فيه جميع الأطراف على قدم المساواة، ومناقشة جميع المشاريع المقترحة بشكل عادل".
خلال المرحلة المبكرة من الصراع الروسي الأوكراني، واجهت الهند ضغوطاً هائلة من الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، لحملها على التحالف مع الكتلة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة وإدانة روسيا بعبارات لا لبس فيها. ومع ذلك، حافظت الهند على حيادها الاستراتيجي المبدئي، داعية إلى "العودة إلى مسار الدبلوماسية والحوار".
إن موقف الهند بشأن قضية أوكرانيا ليس جديداً. خلال الحرب الباردة، تبنت الهند سياسة عدم الانحياز. ومع ذلك، بحلول السبعينيات، اقتربت الهند من الاتحاد السوفييتي بسبب الدعم الأمريكي العلني لباكستان بشأن قضية بنغلاديش والحرب الهندية الباكستانية الناتجة.
ويولي الفكر الاستراتيجي الهندي أهمية كبيرة للتعددية القطبية في الشؤون العالمية.
وتستعد دلهي اليوم للعب دور الوساطة بين موسكو وكييف حيث في أواخر آذار الفائت تحدث رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، هاتفياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية، راندهير جايسوال، في الثامن والعشرين من آذار بأن بلاده تشجع على التوصل إلى حل سلمي للصراع بين روسيا وأوكرانيا، وأنها منفتحة على استخدام كل السبل والوسائل لتحقيق ذلك. وأضاف: "موقفنا واضح للغاية بشأن مبادرات السلام وكيف ننظر إلى الصراع الأوكراني، نحن نواصل تشجيع الحل السلمي للصراع من خلال الحوار والدبلوماسية، ونظل منفتحين على استخدام جميع السبل والوسائل التي من شأنها تحقيق هذا الهدف".