البحوث العلمية الزائفة والمجلات المفترسة
تتزايد الضغوط على الباحثين في كل العالم مع تزايد قيمة معيار أساسي للنجاح العلمي والترفيع الأكاديمي ألا وهو النشر العلمي، وتستغل عدد من الجهات هذه الضغوط المتزايدة التي تعطي قيمة لعدد الأبحاث مع غض الطرف عن قيمتها العلمية الحقيقية إلى حد كبير.
إن تسليع النشر العلمي هو جزء من طريقة دراجة عالمياً في تسليع كل شيء وصولاً إلى الفن والعلم.
تغرق صناديق البريد الوارد للباحثين العلميين بشكل شبه يومي برسائل بريد إلكتروني من مجلات تبدو مرموقة علمياً، تطلب من الباحث المشاركة في العدد القادم من المجلة ببحث معدّ للنشر، ويتخيل بعض الباحثين ولا سيما الشباب منهم، أن هذا دليل على تميزهم العلمي، لكن معظم هذه الرسائل هي جزء من ماكينة التسويق للنشر العلمي الزائف، الذي يشجع على إرسال أي نوع من الأبحاث حتى لو كانت ليست ذات قيمة علمية حقيقية، ويتم إغراء الباحثين بسرعة النشر، وبمعايير المجلة العالية من التقييمات المعترف بها عالمياً، مثل قاعدة بيانات سكوبوس للمجلات المعترف بها عالمياً، أو تصنيف المجلات حسب المعيار Q، ويتم تقاضي مبالغ نحو المئة دولار وقد تتجاوز الألف، ويتم تسويق شرعية هذا التقاضي على أنه يضمن مستوى مرموقاً للنشر العلمي وغيره من المبررات.
وتساهم المؤسسات العلمية في دفع الباحثين نحو هذا النوع من النشر كذلك من خلال الضغوطات التي تمارس عليهم من أجل الترفيع الأكاديمي، الذي يعتمد بجله على عدد الأبحاث وتصنيفها حسب المعايير العالمية الجديدة التي أثبتت زيفها حتى الآن.
وقد كشفت دراسة سابقة في العام 2018 حول «النشر الزائف في سكوبوس»، أن المجلات الزائفة تظهر على شكل مجلات يكون الوصول إليها مفتوحاً، ومقابل هذه الخدمة تحصل دار النشر على رسوم من الباحث، وهنا يظهر تضارب المصالح، بحيث يغض الناشر الطرف عن أية عيوب في البحث تظهر أثناء عملية التحكيم، وينشرون أي شيء مقابل المال.
وقامت الدراسة بتحليل 3293 مجلة تحمل رقماً معيارياً في موقع علمي، لتكتشف أن هنالك 324 مجلة مشتركة بين قائمتي سكوبوس وبيل للمجلات، حيث تم تحليل نحو 164 بحثاً تم نشرها خلال الفترة 2015 - 2017. ووفقاً لتلك الدراسة قدّر حجم الأموال في سوق النشر الزائف بنحو 74 مليون دولار أمريكي لعام 2014 وتسمى مثل هذه المجلات بالمجلات المفترسة. وقد نشرت هذه الدراسة قبل دخول الذكاء الاصطناعي مجال النشر العلمي، لذا علينا تخيل الأرقام اليوم.
وإذا كانت بعض الجهات العلمية توصي كنوع من الضمان لجودة البحث أن تكون المجلة ضمن سكوبوس، فمن الواضح أن هذا المعيار لم يعد ضماناً على الإطلاق اليوم. ويبدو أن نظام الترفيع العلمي الحالي لا يستطيع فلترة المجلات غير النزيهة الخادعة.
وكانت د. إرينا بومي الأستاذة في جامعة موسكو الحكومية قد أعلنت أن 3% من المنشورات في المجلات العلمية الغربية هي مقالات زائفة.
تواجه العلوم الغربية فضيحة غير مسبوقة، وذلك بعد العثور على العشرات، إن لم تكن المئات، من المقالات المزيفة في المجلات التي يتعين عليها من الناحية النظرية، أن تفحص كل شيء حتى العلامة العشرية. وتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي ولم تتم مراجعتها قبل النشر. ويقول الخبراء إن المقصود بالأمر هو انهيار نظام المعرفة العلمية بشكل عام. ولا يمكن منذ الآن الوثوق بأحد.
وبدأ كل شيء قبل بضعة أسابيع حين نشرت مقالة "الوظائف الخلوية للحيوانات المنوية الجذعية" في مجلة Frontiers in Cell and Developmental Biology ، ولاحظ القراء على الفور صورة غريبة أظهرت فأراً بعضو ذكري ضخم أكبر منه، ثم تم حذف المقال. ويقول موقع المجلة على الإنترنت: "لم يتفق المقال مع معايير الدقة التحريرية والعلمية، وبالتالي تم سحبه". بينما في الواقع، تمت كتابة النص من البداية إلى النهاية بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ في رسم الفأر على نحو خاطئ، لكن ذلك لم يلفت أنظار المؤلف البشري ولا محرّري المجلة.
وبدأت على الفور أحاديث مفادها بأن سمعة المجلة كانت سيئة. ولطالما شك المجتمع العلمي منذ زمن في أن المجلة تتظاهر فقط بمراجعة النصوص، ولكنها في الواقع تنشر ما تريد. تُسمى مثل هذه المجلات بالمجلات "الخارجة عن القانون"، ويحب بعض العلماء نشر مقالات هناك، ولا توجد لديهم فرصة لتحقيق اكتشاف حقيقي، لكنهم يريدون إحداث ضجة كبيرة.
فما هي في الواقع مثل هذه المجلات؟ وماذا عن الدقة العلمية سيئة السمعة؟ وماذا عن المعركة اليائسة ضد العلوم الزائفة و"الذين يكذبون طوال الوقت"؟
وعندما قرر الجمهور التحقق فيما هو تحت غطاء "المجلات الأكاديمية"، اتضح أن الكثير من هذه المجلات عبارة عن "مقالب للقمامة" تنشر كل شيء مقابل الربح المادي، كما يطلق عليها العلماء.
فما مدى انتشار هذه الظاهرة؟ في الآونة الأخيرة قامت قاعدة البيانات الموحدة للمنشورات العلمية الموثوق بها Scopus بإزالة 160000 مقالٍ على مدى ثلاث سنوات. هذا يمثل حوالي 3٪ من جميع المنشورات العلمية. وقام النظام بإدراج المنشورات التي تم نشرها فيها في القائمة السوداء. وكان ذلك قبل عامين، أي في عصر ما قبل الذكاء الاصطناعي.
تحاول بعض المواقع الغربية الترويج لفكرة أن هذه المجلات الزائفة ليست موجودة في الغرب وأنها في الهند أو الصين وبعض دول العالم الثالث، لكن قوائم المجلات المزيفة تظهر بطلان هذه الادعاءات، وتتبين حقيقة المزيف الأول، ومنها مجلات ألمانية وفرنسية وأمريكية "مرموقة".
رداً على تغلغل الزيف هذا، فرضت كل من الصين وإيران في الآونة الأخيرة على علمائها قواعد تحد من الاعتماد على هؤلاء الناشرين. ويعد الطب والهندسة والصيدلة من أكثر المجالات تأثراً بهذه الظاهرة. ومن الواضح أن نشر هذا العلم الزائف يثقل كاهل المالية العامة للبلدان الأكثر تأثراً به، حيث تغذي المختبرات الحكومية إيرادات الناشرين المزيفين.