حول أكذوبة «اليوم التالي في غزة»!
نشطت الصحافة الأمريكية خلال الأسبوعين الماضيين في الحديث عن سيناريوهات اليوم التالي في غزة. وفي هذا السياق، اشتغلت على محورين أساسيين؛ الأول، هو ملء الفضاء الإعلامي بـ«تسريبات» حول مفاوضات وخطط سرية يجري إعدادها تحت الطاولة، تارةً مع السعوديين، وأخرى مع المصريين، وثالثة معهما كلاهما، ورابعة باشتراك السلطة الفلسطينية، وهكذا دواليك، وذلك بالرغم من أنّ هذه «التسريبات» قد تمّ نفيها رسمياً بأشكالٍ غير مباشرة، وبأشكال مباشرة أحياناً من الأطراف المعنية.
المحور الثاني هو المبالغة الإعلامية المقصودة في تصوير الخلاف الحاصل مع الكيان، وبشكلٍ خاص، الهذر الأمريكي حول «حل الدولتين»، والذي تسعى واشنطن لتصوير نفسها من خلالها وكأنها راعية هذا الحل، وكأنها تريده فعلاً وتسعى للضغط على «إسرائيل» للسير فيه.
الرأيان المتطرفان القائل أحدهما بأنّ «إسرائيل» وواشنطن على وفاق تامٍ، وثانيهما بأنهما على خلافٍ تام، كلاهما غير صحيح فيما نعتقد؛ ما يتفق عليه الطرفان بشكلٍ لا لبس فيه، ويعبران عنه يومياً، بالسلوك العملي على الأرض، وبالسلوك المصاحب الدبلوماسي والسياسي، هو أنهما ضد وقف النار، ويريدان لهذا العدوان أن يطول، بل وليست لديهما تقديرات واضحة للفترة الزمنية التي ينبغي أن يمتد لها.
المشترك بين الطرفين أيضاً، هو أنّ لحظة وقف إطلاق النار، ما دامت الأهداف لم تتحقق، لا الأهداف «الإسرائيلية»، ولا الأهداف الأمريكية، هي ذاتها لحظة إعلان الهزيمة... ولذا يجب دفع هذا اللحظة نحو المستقبل، والعمل بالتوازي على محاولة تغيير النتائج.
بالنسبة للكيان، فإنّ أهدافه في غزة غير قابلة للتحقيق، بحكم الأمر الواقع أولاً، وباعتراف قسم مهم من سياسيه ثانياً، ولذا فالبديل أحد أمرين: إما إيجاد صفقة ما، تدخل فيها دول عربية على رأسها السعودية ومصر، تسمح للكيان بالخروج بمظهر المنتصر، وهذا بديل غير متاحٍ عملياً، أولاً لأنّ فصائل المقاومة هي صاحبة الكلمة الفصل في أي اتفاق، وثانياً لأنّ مصالح الأمن القومي لهذه الدول، تتضارب في الصميم مع خروج الكيان منتصراً، لأنّ خروجه منتصراً يعني الوقوع مجدداً تحت البلطجة الأمريكية بشكلٍ أكبر من السابق.
البديل الثاني من وجهة نظر الكيان، هي توسيع الحرب المباشرة عبر رفع درجات التحرش بكل من لبنان ومصر وإيران، لأنّ الانتقال نحو حربٍ مباشرة سيسوق الأمريكي نحو هذه الحرب مجبراً، وسيحمله تبعات استنزافٍ شديد الضخامة والخطورة، وهو الذي تظهر عليه علامات العجز في المواجهة مع الحوثيين في البحر، فكيف بمواجهة أوسع تشمل المنطقة بأسرها... هذا البديل، وإنْ كان ما يزال متاحاً نظرياً، إلا أنّ الأمريكي يرفع درجات الضبط والسيطرة على سلوك الكيان بشكلٍ يومي، بحيث يمنعه، ولذا فاحتمالات تحققه متدنية.
قبل الانتقال إلى الأمريكي، يمكن القول إنّ «إسرائيل» محكومة بالهزيمة في أي سيناريو كان؛ فبدائلها كلها غير قابلة للتحقق العملي.
بالنسبة للأمريكي، فهو يصر على منع وقف إطلاق النار، ويعمل بالتوازي على رفع التوترات والضغوط إلى الحدود القصوى في كل المنطقة، وخاصة حول مصر والسعودية، على أمر تفجيرهما من الداخل وتفجير المنطقة بأسرها ضمن فوضى شاملة لا تبقي ولا تذر... حتى ما يجري الحديث عنه مؤخراً من احتمالات انسحاب للقوات الأمريكية من سورية والعراق، ورغم أنّه يبدو استجابة طبيعية لارتفاع المخاطر والخسائر، إلا أنّه من جانب موازٍ، (إذا ما جرى)، فإنه سيجري بطريقة محددة تسمح بخلق فوضى واسعة، عبر إعادة إطلاق الوحش الداعشي ودعمه، وعبر تفعيل كل التناقضات البينية في المنطقة، بحيث تشتغل مفاعلات التخريب الذاتي من تلقاء نفسها.
السيناريو الأمثل بالنسبة لواشنطن، وهو السيناريو الوحيد المناسب لها في الوقت نفسه، هو سيناريو الفوضى الشاملة. بغير ذلك فهي ومعها «إسرائيل»، ونفوذهما في كامل منطقة الشرق الأوسط، سيكون في آخر أيامه، مع ما سيحمله ذلك من آثارٍ مؤكدة، وسريعة، على التوازنات الدولية بأسرها.
ضمن هذا الفهم، يصبح من الممكن أن نقرأ بشكلٍ أوضح، معاني الجلبة الإعلامية حول «اليوم التالي في غزة» وحول «وقوف الأمريكان مع حل الدولتين».
المطلوب من هذه الجلبة هو أن تتواكب مع الانتقال إلى ما أسموه «الطور الثالث من العمليات العسكرية»، والذي جاء نتيجة تضافر عاملين: الأول هو حجم الخسائر التي يتلقاها الكيان داخل غزة، والثاني هو الضغط الأمريكي الذي عبّر عنه جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي، بأنّ المطلوب هو الانتقال من «العمليات عالية الكثافة إلى العمليات منخفضة الكثافة»، والتي تعني بالدرجة الأولى عمليات يمكن أن تدار بطريقة تسمح بإطالة أجلها لأشهر وربما لسنوات. وتسمح للأمريكي بهامش الوقت الكافي من وجهة نظره، لتفعيل كل التناقضات في المنطقة بحيث تصل إلى الانفجار والفوضى الشاملة، التي ستصبح هي بالذات «اليوم التالي».
النفاق الأمريكي حول «حل الدولتين» وحول «التسريبات والخطط السرية»، المقصود منه هو محاولة إبقاء الاستئثار الأمريكي بدور «الراعي»، ومنع تفعيل الرباعية الدولية من جهة، وأهم من ذلك أنه يعني بالضبط: فلتستمر الحرب، ولنبدأ بالحديث عن حلّ الدولتين وبنقاش التفاصيل... فلنبدأ، ليس مهماً متى ننتهي، (والحقيقة أنه من المهم أننا لن ننتهي إلى شيء)، ولكن بكل الأحوال، فلنبدأ، وليستمر العدوان بالتوازي.