الأردن: سيرة ذاتية لنهاية حراك شجاع
لم يتوقع أحد بأن الحراك الأردني الذي استمر لثلاث سنوات بعد اندلاع الثورة التونسية في شباط/ فبراير 2011، سيصل إلى نهاية غير سعيدة كالتي وصل إليها، وذلك على الرغم من وجود مؤشرات مبكرة أنذرت بذلك.
دخل الحراك الشعبي الأردني في سلسلة انتكاسات متتالية، بعض أسبابها مركب، وأخرى ارتبطت بنجاح السلطة في اختراق بنيته التنظيمية الهشة. فوجد نفسه أمام تراجع وتلاش متواصلان حتى وصل إلى حالة التهميش التي يعيشها الآن. منذ انطلاق الحراك نفى عدد كبير من رجالات السلطة في الأردن (على الرغم من عدم استيعابهم لما يحصل في شوارع عمان والمحافظات الأخرى) بأن يكون الحراك في المملكة يتبع مباشرة لما تشهده الدول العربية المجاورة. "الاردن مختلف"، كانت العبارة التي رددوها دائماً لفصل الأحداث عن بعضها.
"الشعب يريد إصلاح النظام"
يبدو أن الأردن كان بالفعل مختلفاً. رفع الحراك الشعبي، ولأول مرة ربما منذ عقود، شعارات تجاوزت كل "التابوهات" والخطوط الحمراء المتعارف عليها سابقاً، وطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لكن آلاف الاحتجاجات والتظاهرات وتنوع البنى التنظيمية (مئة تنظيم)، لم تتجاوز ما بدا "مقبولا" شعبياً ورسمياً كشعارات وأهداف. وعلى سبيل المثال، لم يرفع إلا نادراً شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، بل استبدل بـ"الشعب يريد إصلاح النظام". وفي ظل هذا الشعار وصلت الانتقادات للسلطة إلى حدٌ لم يعتد عليه الأردنيون، كانتقاد الملك نفسه والدولة بكامل رجالاتها وأركانها، والمساس بجهاز المخابرات الذي يحكم الأردن فعليا. وفي حالات متعددة، كان بعض الناشطين يكيلون الاتهامات والشتائم لكبار المسئولين في الدولة.
جبهة غير موحدة
الظاهرة الأبرز في الحراك هي التحول المبكر إلى حراك مناطقي. فهناك"حراك ذيبان" الذي نشأ في منطقة "ذيبان" جنوب الأردن، وهو من أولى الحراكات الشعبية الأردنية وأكثرهم تنظيماً وتأثيرا. ثم تتالت الحراكات الأخرى، التي حمل كل واحد منها اسم المنطقة أو المدينة.جرت محاولات عديدة لتنظيم الحراك الشعبي تحت قيادة واحدة، وفي جبهة موحدة تمتلك برنامجاً، إلا أن جميعها باءت بالفشل. وبقي الحراك مقسماً على المدن والمناطق الجغرافية فقط، لكن ذلك لم يمنع من حصول عدد كبير من التظاهرات والاحتجاجات الموحدة في العاصمة عمان. في البداية، تعاملت السلطة مع الحراك الشعبي، الذي رفع شعار "السلمية" منذ انطلاقته، بسياسة "الأمن الناعم". لكن سرعان ما تخلت السلطة عن ذلك لمصلحة "الأمن الخشن"، خاصة حين تعلق الأمر بتظاهرات دعي لتنظيمها في مواقع "إستراتيجية" داخل العاصمة، كتظاهرة دوار الداخلية التي جرت في آذار /مارس 2011 وتم فيها تفريق المحتجين بالقوة. وبالإضافة إلى استخدام القوة، لجئت السلطة إلى تكتيك آخر للنيل من الحراك كظاهرة "البلطجية" و"الزعران" التي قامت باستعمالهم لمهاجمة المتظاهرين، ودفعهم للاشتباك معهم، موفرة بذلك ذريعة لتدخل القوى الأمنية الرسمية لفض الاشتباك والتظاهرة في آن معاً، على نحو ما جرى في ساحة النخيل في تشرين الأول/ أكتوبر 2012 ، أو في مسيرة العودة، وغيرها.وتشبه في ذلك ظروف الحراك الشعبي في الأردن تلك التي مرت بها الاحتجاجات الشعبية في دول عربية أخرى. من إعلان سلمية الحراك، ثم التطور في استخدام القوة لفض التظاهرات، وتوظيف جهات أخرى مناهضة للحراك تحت شعارات الولاء للدولة والنظام لمواجهة المتمردين عليهما.
اصلاحات بدلا من التغيير
استجابت السلطة لبعض مطالب الحراك، وفي مقدمتها الإصلاحات الدستورية التي تم إنجازها في شهر أيلول/ سبتمبر 2012. وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات لم تلب طموحات ومطالب الحراك الشعبي، إلا أنها ما كانت لتنفذ من دون حصوله.
لم يتمكن القيمون على الحراك من إخراجه عن تقليديته، فراوح مكانه طوال فترة الاحتجاجات. وأدت الصراعات الداخلية، كانفصال الحركة الإسلامية في الأردن وذراعها "جبهة العمل الإسلامي"، واستقلال القوى السياسية والمعارضة عن الحركة الإسلامية، وتشرذم الحراك مناطقياً وجغرافياً، إلى خفوته. فيما نجحت السلطة، باعتمادها سياسة الاحتواء الناعم، بتحويل الحراك إلى مجرد ذكرى من الماضي القريب، ومجرد أفكار مطروحة على المجتمع الأردني. على مدى ثلاث سنوات، تمكن الحراك الشعبي الأردني من تشكيل خطاب سياسي وإن لم يخرج عن النظام الملكي، لكنه ناقض وبشكل جوهري سياسات السلطة ورجالاتها، فسمح له ذلك بالاستمرار. إلا أن هذا الحد لم يخوله بناء بيئة شعبية محلية حاضنة وداعمة له،بل اقتصر الدعم في أغلب الأحيان على العصبية العشائرية، بدلاً من العصبية الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي نادى بها. لم يتبق من هذا الحراك الآن سوى بعض الأصوات والنشاطات المتواضعة التي تهدف الى التذكير بأن في الأردن حراكاً شعبياً يتمتع بالشجاعة للإعلان عن نفسه.
المصدر: السفير