في ذكرى مهدي عامل
قد تكون رصاصات الرجعية التي دوى صوتها في شارع الجزائر عام 1987 في بيروت تمكّنت من إيقاف قلم مهدي عامل عن الكتابة، لكنها لم تتمكّن بالتأكيد من أن توقف مؤلفاته وفكره الثاقب من التجوّل في المكتبات الماركسية وبين صفوف المثقفين الثوريين، ليصبح مهدي عامل بالفعل، علماً من أعلام الفكر الثوري التقدمي.
وقد لا يسعنا مقالٌ واحد لنفي مهدي عامل حقّ الحديث عنه وعن إنتاجاته الفكرية الغزيرة، لكن ما يهمنا هو إضاءة المحطات الرئيسية في حياة الشهيد، وإضافاته للفكر الماركسي الذي يرى فيه مشروعاً متكاملاً للتحرر من الرأسمالية وإمبرياليتها.
مهدي عامل، لست مهزوماً ما دمت تقاوم
كان عنوان “لست مهزوماً ما دمت تقاوم” هو جملة افتتاحية كتبها مهدي عامل في مجلة الطريق عام 1982 عقب اجتياح قوات الاحتلال الصهيونية لبيروت، حيث بقي مرابطاً فيها يحثّ على النضال والصمود ومقاومة الاحتلال الذي يحاصر حدودها.
لكن دعونا نخرج من إطار التسلسل التاريخي الرتيب في سرد الأحداث قليلاً، فذلك قد يفقد الحديث عن مهدي عامل صبغته الخاصة، ولنبدأ كلماتنا من الوصف الذي وصفه اياه أحد أصدقائه المقربين بأن شبّه ” أفكاره في رأسه كالمسامير في فم اسكافي ماهر، ولا تحتاج الفكرة لأكثر من ضربة واحدة من شاكوش عقله، حتى تنغرس في قلب الحقيقة”! هو الدكتور حسن عبدالله حمدان الذي عُرف باسم مهدي عامل حينما بدأ يكتب في مجلة الطريق اللبنانية، والذي ترسخ لاحقاً لدى الجميع من خلال مؤلفاته الكثيرة. أصدر ديوانين في الشعر، نشر الأول “تقاسيم على الزمان” تحت اسم هلال بن زيتون، والآخر “فضاء النون” تحت اسم حسن حمدان.
على صعيدٍ شخصي، بدأتُ بقراءة مهدي عامل قبل عامٍ ونيف من الآن بعد أن حذرني البعض من صعوبة كتاباته التي قد لا أفهمها بسهولة، لكنّي قبلت التحدي وبدأت بالتنقل بين ثنايا نصوصه المحكمة وأفكاره المترابطة، وبالفعل، فقد عانيت من فرط التركيز محاولاً استيعاب الفيض النظري الذي وجدته في كتب مهدي عامل، فقد كان الكتاب الذي قرأته بدايةً “مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، القضية الفلسطينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية” مدخلاً حقيقياً ليس لنقض الفكر الطائفي وحسب، بل لنقض الفكر الرجعي بمجمله في سياق عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي للمفاهيم ما قبل الرأسمالية. فالبرجوازيات الكولونالية تعمل على تكريس الوعي الهوياتي (الطائفي، العشائري، الإقليمي.. إلخ) بهدف التعتيم على الصراع الأساسي الذي كان البحث في أسسه وتفكيك آلياته بؤرة أعمال مهدي عامل، وهو الصراع الطبقي.
حيث كانت الحرب الأهلية الدامية في لبنان دافعاً لهذا الكتاب الذي أنجزه عام 1980 في خضمّ المعارك، والذي كان جزءاً من التزام عامل كمفكّر ماركسي حقيقي يبحث في أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي تتخذ طابعاً طائفياً، والتي كان يرى فيها صراعاً طبقياً بالأساس، يتموّه بتموّه الفكر المسيطر الذي يحركه.
وفي سياق نقض الفكر الطائفي، يميّز مهدي عامل بين الأيديولوجية الدينية كونها أيديولوجية سائدة بعامة، والأيديولوجية الطائفية كونها أيديولوجية الممارسة السياسية للبرجوازية اللبنانية بخاصة، حيث كان ينظر إلى الصراع بين نقيضين طبقيين بوصفه صراعاً مكشوفاً ليضعه ضمن مستواه المادي وليؤكد كذلك على أن الأشكال المختلفة التي يتخذها هذا الصراع ما هي إلّا تحايل أيديولوجي من قبل الطبقة المسيطرة حال دون تشكّل الطبقة النقيض، فيقول: “… إن الأيديولوجية الدينية هي أيديولوجية الطبقة –أو الطبقات– المسيطرة في هذه العلاقات من الإنتاج (أي السابقة على الرأسمالية). لكنها أيضاً أيديولوجية الفلاحين الخاضعين لسيطرة الإقطاع، أو الأرستقراطية. لذا كان الصراع الطبقي بين الفلاحين والطبقات المسيطرة هذه، يأخذ غالباً، شكل الصراع الديني، وكان هذا الشكل عائقاً لتطوره، إن لم يكن سبباً رئيسياً من أسباب فشل الثورة الفلاحية من حيث هي ثورة فلاحية، سواء في أوروبا في القرن السادس عشر، أم في مجتمعات القرون الوسطى، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية”.
بينما يحدد عامل العلاقة الطائفية للسيطرة بكشف طابعها الحقيقي، حيث “… إن الطابع العنصري ضمني في الأيديولوجية الطائفية. فآلية تحرك هذه الأيديولوجية، من حيث هي الشكل الرجعي الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية في الحقل الأيديولوجي للصراع الطبقي، تقضي بضرورة أن يبقى ذلك الطابع العنصري فيها ضمنياً، أي بالتالي، خفياً، كي تتأمن ديمومة التجدد لنظام التوازن الطائفي، الذي هو أساسي لنظام سيطرة البرجوازية الطبقي وتجدده، …”!
وبذلك، شكّل هذا الكتاب مصدراً غنياً كان حجر الزاوية في بناء تراكم فكري فتح أمامي أبواب جديدة وآفاق أوسع لإدراك طبيعة البنى الفوقية للأنظمة العربية وكيفية عملها بصورةٍ عامة، ومنها أجريتُ مقاربة بين علاقة السيطرة “الطائفية” في لبنان وعلاقة السيطرة “العشائرية” في الأردن، لأصلَ إلى نتيجة مفادها أن “العشائر” في الأردن كما “الطوائف” في لبنان لا يمكن أن تُعرّف بوصفها كيانات سياسية مستقلة ومتناحرة إلّا بوجود دولتها التي تعطيها الامتياز لهذا الشكل من التكون.
فيما بعد، وقع بين يدي كتاب “أزمة الحضارة العربية، أم أزمة البرجوازيات العربية” الذي كان من المفترض أن يكون مقالاً بالأساس (على حد تعبير لجنة نشر تراث مهدي عامل)، لكنّ استغراق عامل في بحث موضوع ندوة الكويت التي عُقدت في نيسان عام 1973 دفعه لأن يصدر كتاباً في نفس العام، يناقش الأفكار المركزية التي تداولها الباحثون في الندوة حول أزمة الحضارة العربية.
حيث يتضح جلياً من العنوان أن الركيزة الفكرية التي حكمت منطق المشاركين في الندوة هي دراسة أزمة الحضارة العربية بما هي أزمة حضارية مجردة من العوامل الاقتصادية التي تحدد موقعنا في علاقة الهيمنة الإمبريالية، بينما كان الهمّ الأساسي الذي شغل فكر مهدي عامل هو التأكيد على أن الأزمة هي أزمة البرجوازيات العربية في تبعيتها لمراكز رأس المال، والتي كان مؤداها تخلف قوى وعلاقات الإنتاج لدى البنى العربية عن نظيرتها التي نشأت في حقبة تفكك الإقطاع وصعود الرأسمالية وتطورها.
واستمريّت لاحقاً بقراءة مهدي عامل إلى أن وقع بين يدي كتابه الأخير “نقد الفكر اليومي” الذي خاض فيه عامل معركة ملحمية على عدة جبهات في الحقل الأيديولوجي، تارةً أسماها تيار الفكر العدمي، وتارةً اُخرى تيار الفكر الظلامي، والفكر البرجوازي المتأسلم كذلك، حيث كان يتتبع هذه التيارات الفكرية من خلال كتابات منظّريها في الصحف اليومية والدوريات، ومن ثم يقوم بتفكيك بنيتها النظرية وتعرية المنطق الذي تتحرك به وينقدها من موقع الطبقة النقيض.
وقد شكّل هذا الكتاب منعطفاً مهمّاً في تركيب بنية الوعي التراكمي بما أضافه لي من مفاهيم جديدة وأدوات معرفية لم أمتلكها من قبل، فدرجة الإحكام في النص وكثافة الأفكار المطروحة كانت السمة البارزة التي واجهتها دائماً أثناء تنقلي بعمق بين صفحات الكتاب. وفي سياق النصّ، يبيّن عامل أن النقد من موقع اللا-موقع ليس نقداً في محاولة الفكر العدمي النقد من خارج فضاء الفكر، بوصفه حقلاً للصراع الأيديولوجي، وكأنه مستقلٌ عنه، فيقول: “أمّا الفكر الذي يلغي التناقض والاختلاف بين هذه المواقع (أي مواقع الفكر في حقل إنتاج المعرفة بما هي مجال للصراع الطبقي)، أو يطمح، بالوهم، إلى إلغائها، فهو ليس بفكر نقدي، وإن ادّعى النقد. وهو بالفعل يدّعيه، بل يتوهم ويوهم بأن للنقد عنده طابعاً جذرياً شاملاً، لأنه نقد، من موقع الصفر، للنقيضين معاً، أي لما يسميه “الثقافة السائدة” و “الثقافة المعارضة”.”!
أمّا الفكر الظلامي، فهو ظلامي لأنه ينزلق، من حيث البنية النظرية التي تحكمه، إلى مواقع البرجوازية المسيطرة في الجوهر. وبالرغم من التقاطع الكبير بين الفكر العدمي والظلامي إلّا أن مهدي عامل يميّز بينهما من ذلك المنطلق بالتحديد، كما أن الفكر الظلامي “يشكك، قبْلياً، في قدرة هذه النظرية (الماركسية) على مقاربة واقعنا المتميز. ويستند التشكيك هذا إلى حجج متنوعة، لكن منطقاً واحداً من الفكر يحكمها، هو القائل: الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا، فبين الاثنين مسافة هي القائمة بين الجوهر والعارض، بين الروح والمادة. الشرق هو الذات، والغرب هو الآخر”. وهو ما دأب مهدي عامل على دحض منطق عمله الداخلي وتفنيد معقوليته عبر الأعمال التي قام ببنائها على أرضية المؤلَّف الرئيسي “مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني” الذي صدر الجزء الأول منه “في التناقض” عام 1972 والجزء الثاني “في نمط الإنتاج الكولونيالي” عام 1976.
حيث أكّد مهدي عامل على تميّز المفاهيم الماركسية عربياً، إلى جانب كونية النظرية الماركسية ككل، وعدم صحة الادعاء القائل بفشل الماركسية على أبواب لبنان وسوريا والعراق والأردن وجميع الدول العربية تباعاً، وكون الفكر الماركسي اللينيني لم ينشأ في إحدى تلك الدول، فإن ذلك لا يعني عدم قدرته على هضم الإشكاليات التي يواجهها واقعنا العربي المعاصر وطرح البدائل العملية بالتالي انطلاقاً من الواقع نفسه، وذلك بتطوير مفاهيمه بشكلٍ خلّاق استطاع عامل من خلاله أن يضيف تصوراً جديداً للفكر الاشتراكي في إطار حركة التحرر الوطني من موقع الطبقة العاملة الثورية.
لكنّا لسنا بصدد الوقوف عند جميع مؤلفات مهدي عامل في استعراضٍ لأسماء الكتب وأبرز ما جاء فيها من أفكار، بقدر ما يعنينا أن نُظهر مدى الترابط في المنطق الذي استحثّ عقل الشهيد ليس للكتابة وحدها، حيث كان عامل يتنقل بين القرى اللبنانية ليناقش أطروحاته ويحاضر بلغة سهلة الفهم على المواطنين، وبالتالي راهنية هذه الكتابات التي مثّلت بناءً نظرياً محكماً في مجملها، لتصبح أداة تحليلية في فهم واقعنا العربي الذي تميّزه تبعية الطبقة المسيطرة فيه، على كل صعيد، للرأسمالية الإمبريالية.
مهدي عامل، وتفاصيل أُخرى
من زاويةٍ أُخرى، يتحدث بعض أصدقاء مهدي عامل في مذكراتهم عن رحابة شخصيته وطبيعته المرحة، حيث كان جموده ظنّاً خاطئاً انعكس لدى من لم يعاشروه نتيجةً لصرامة فكر الشهيد وشدّة تماسك نصوصه التي تعطي انطباعاً يوحي بمزاجٍ حاد وجديةٍ مضجرة عن صاحبه. فعلى سبيل المثال، حين طلب “الشاعر الفيلسوف” حسن حمدان (بحسب تعبير أحد المقربين له) من مجموعة أصدقاء المساعدة في نشر ديوانه الأول “تقاسيم على الزمان” الذي صدر عام 1973 تحت اسم شاعر جزائري مستعار هو هلال بن زيتون، قرر أحد الأصدقاء بعد أن اكتشف اللعبة القيام بمثلها بأن طلب المساعدة منه في توزيع كتاب لصديق آخر اسمه بدر بن ليمون.
وبالرغم من أن رصانة مهدي عامل في التفكير والنقاش والكتابة، والتي كانت تعكر أحياناً صفو أحلام مراهقي اليسار حينها، ارتبطت بجزءٍ ما من شخصيته، وربما تكون أساءت لها ممن لم يعرفوه عن كثب، إلّا أنها لم تفقده بالتأكيد الروح الشغفة المحبّة للحياة، والتي كان يناضل من أجل تغيير شروطها بعد أن دمرتها المنظومة الرأسمالية.
كانت رصاصة واحدة في رأس مهدي عامل، وجدت طريقها في الثامن عشر من أيار/مايو عام 1987 في شارع الجزائر، أثناء الطريق إلى عمله في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ببيروت، كانت كفيلة بأن توقف قلمه عن الكتابة، حيث كان عامل يعتزم إنهاء الكتاب الأخير “نقد الفكر اليومي” قبيل اغتياله على يد القوى الرجعية، والتي أرعبتها كلمات مهدي عامل التي تصرخ بالحقيقة، والذي بدأ بكتابته بالفعل عام 1980، لكنه توقف عن ذلك لسببين هما حصار بيروت عام 1982 وانشغاله بكتاب “في الدولة الطائفية” على حساب الأول نظراً لتصاعد العنف واحتدام الحرب الأهلية الطائفية الأمر الذي لم يستطع عامل الهروب منه كمفكّر ماركسي ملتزم.
ترك الشهيد مهدي عامل الصفحات الأخيرة من كتابه نصف فارغة، تحت عنوان “في عدم وجود نمط معين من الإنتاج يمكن تمييزه بأنه نمط إنتاج إسلامي” دون أن يكمل ما خطّه بيديه قبل ذلك اليوم، ليضع المهمّة على عاتق أبناء جيلنا في إكمال ما بدأه الشهيد، وفي تفسير ما لم تسنح له الفرصة بإتمامه.
عاد مهدي عامل إلى منزله قبل شهرٍ من الاغتيال ليقرأ على مسامع زوجته الفرنسية إيفلين، مقطعاً من بيانٍ لأحد المجموعات الأصولية تهدد بقتله، طلبت منه الرحيل عن بيروت لكنه رفض ذلك، حيث مثّل موقفه الثابت تجسيداً حقيقياً للفكر الثوري المقاوم الذي يحمله عامل، وبالفعل، لم يكذّب البيانُ خبراً، فقد نفّذت القوى الظلامية وعدها بأن أردته شهيداً للفكر والحرية، إلى أن أُعلن اليوم التالي لاغتياله 19 أيار/مايو من كل عام، يوماً “للانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي” بإجماع الهيئات الثقافية والجامعية.
مهدي عامل كان أكثر من مجرد مفكّر ماركسي له كلمات نافذة حتى النخاع في عمق الحقيقة وصميمها العلمي، هو تجربة نضالية متكاملة، تجربة زاوجت بين القلم المحكم والكلمة القاسية، بين الصمود البطولي والمقاومة الرافضة للذل والقهر، بين الفكر المتماسك وسعة الرؤية التي مكّنته من القبض على المشهد بشموليته وتفكيك بناه النظرية.. وعلى صعيدٍ شخصي، مجدداً، مثّل مهدي عامل علماً ماركسياً لا زلت أصبو لامتلاك معرفته باستمرار، ما يعيدني دائماً إلى مقولة لينين في إحدى رسائله: “إذا كنتُ أعرف أنني أعرف القليل، بذلتُ كل ما في جهدي لأعرف المزيد”.
المصدر: راديكال