مصر وعاصفة الابتزازات الغربية
مصر في لحظة مفصلية حرجة بتحديات كثيرة ومتنوعة، وإن كان من الواضح أن الظرف السياسي يفرض عليها اعتماد استراتيجية ملائمة للمرحلة، تظل خطواتها التالية مجهولة وفي إطار التكهنات، أو عبارة عن تحليلات تحمل الصواب والخطأ، فكيف تتعامل مصر مع الضغوط الحالية؟ وهل يمكن توقع تغييرات في بعض الملفات، خصوصاً مع اقتراب الإعلان عن تغييرات حكومية واسعة؟
ما يبدو متفقاً عليه هو أن مصر على المستوى الرسمي تدرك بوضوح أن طبيعة التحركات الأمريكية والصهيونية في المنطقة تضعها في مرمى الاستهداف، لكن كيف تدير القاهرة هذا الظرف الحساس وكيف ترى طريق الخروج الآمن منه، يظل موضوعاً للبحث، وربما سيكون للأحداث المتسارعة الدور الأهم في كشف الرؤية المصرية للتعامل مع تهديد أمنها الوطني.
تحركات على الجبهة الاقتصادية
لا شك أن "البوابة الاقتصادية" ستكون أحد أهم أدوات الضغط الغربية على القرار السياسي المصري، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجموعة من العوامل، أبرزها كون مصر ثاني أكبر المقترضين من البنك الدولي، ويتجاوز الدَّين العام فيها 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وترافق هذا مع انسحاب سريع "للأموال الساخنة" التي شكّلت جزءاً مهماً من الاحتياطات النقدية المصرية، وسببت هجرة هذه الأموال وغيرها من العوامل المشابهة أضراراً كبيرة على الجنيه المصري، ما رفع من قيمة الديون، ودفع مصر مجدداً للبحث عن قروض جديدة، ويبدو حتى اللحظة أن التوجه العام هناك يركز على المؤسسات الغربية سيئة الصيت للحصول على قروض جديدة بشكل مستمر، هذا بالإضافة إلى السعي الدائم لاستقطاب استثمارات في الاقتصاد المحلي وتحديداً من دول الخليج.
الخطوط العريضة السابقة تظهر بعضاً من الصورة المعقدة للاقتصاد المصري، فبالرغم من أن الإمكانيات الكامنة هائلة ويمكن التعويل عليها، إلا أنها تبقى غير قادرة على حل المشكلة في اللحظة الراهنة، وهنا كان المجال مفتوحاً لمرحلة جديدة من الابتزاز الغربي الذي ساهم بشكلٍ كبير في خلق هذا الواقع المشوه وحوّل مصر خلال عقود مضت من بلد صناعي يحقق قفزات سريعة، إلى بلد يعتمد بشكل كبير على إمدادات قصيرة الأمد خاضعة للتقلبات والبازارات السياسية آخرها تخفيض تصنيف مصر الائتماني.
التصنيف الائتماني كأداة في الابتزاز
أعلنت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في شهر تشرين الثاني الماضي عن تخفيض تصنيف مصر من B إلى B- مشيرةً إلى زيادة في مخاطر التمويل الخارجي، وعبّرت الوكالة أن الظرف السياسي الذي تمر خلاله المنطقة بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة سيترك آثاراً على الاقتصاد المصري. الوكالة الأمريكية لم تقم بالخطوة بشكلٍ منفرد، إذا خفّضت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف مصر في شهر تشرين الأول الماضي، وذهبت وكالة موديز إلى اتباع الإجراء ذاته و صنفتها تحت بند: "جدارة ائتمانية عالية المخاطر".
ما بات معروفاً هو أن معايير هذا التصنيف غالباً ما تخضع لاعتبارات سياسية محددة تضعها الولايات المتحدة الأمريكية، والمثير للانتباه مثلاً أن وكالة فتيش ذاتها لم تعلن حتى الآن عن خفض في تصنيف "إسرائيل" التي تحتل مركزاً متقدماً A+، وذلك بالرغم من إعلان الأخيرة حالة الحرب، على خلاف مصر التي لا تعتبر طرفاً مباشراً فيها حتى الآن. على أساس السياق هذا، يندرج قرار التخفيض في عداد الضغوط التي تمارس على مصر اليوم، فقرارٌ كهذا يلعب دوراً كبيراً من الناحية النظرية في حصول مصر على السيولة الضرورية، ويشكّل عاملَ ضغطٍ كبيراً على النظام المصري أملاً في دفعهم للامتثال للطلبات الأمريكية.
رفع الأسعار في لحظة حساسة!
الضغط الاقتصادي على مصر وإن كان يستهدف التأثير على القرار السياسي يظل هدفه الأساسي المباشر التأثير على الوضع المعاشي للشعب المصري، وما يمكن أن ينتج عنه من درجة عالية من الاضطراب الداخلي، الذي ينسجم مع هدف أمريكي غير معلن بإحراق دول جديدة في محرقة الفوضى، فالرهان في واشنطن يركّز الآن على ضرورة إدارة المعركة الحالية وتثبيت أقدامها بعد الصدمة الكبيرة التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى" ويبدو تفجير مصر معادلاً مناسباً من وجهة النظر الأمريكية لـ"رد الاعتبار" بعد صفعة المقاومة الفلسطينية في غزة.
ما يثير المخاوف ضمن هذه المعطيات هو القرارات الأخيرة للحكومة المصرية والتي رفعت أسعار الكهرباء بنسب تتراوح بين 16% و26% ورفعت أسعار تذاكر المترو وسكك الحديد بنسبة 20% كما رفعت رسوم الإنترنت لأكثر من 30%، ويبدو أن قرارات رفع الأسعار لن تتوقف حتى تشمل سلعاً وخدمات حيوية أخرى، إجراءات كهذه في حال توسّعت يمكن أن تتحول إلى عامل مساعد في التفجير.
حكومة جديدة مرتقبة
ما إن انتهت انتخابات الرئاسة المصرية وأعيد انتخاب عبد الفتاح السيسي، تعيش الحكومة الحالية أيامها الأخيرة، فبحسب الدستور ستكون مصر على موعد مع حكومة جديدة في شهر نيسان القادم على أبعد تقدير، في الوقت الذي تنقل بعض وسائل الإعلام المحلية تقديرات عن أنّ القرار بتكليف رئيس وزراء جديد لن يطول وربما تكون أقرب من موعدها الدستوري، وهو ما يتماشى مع عرف مرافق لإعلان نتائج الانتخابات، ومع أنّ كل الأحاديث عن الحكومة الجديدة لم تصبح أحاديث رسمية بعد، إلا أنّ كل المصادر تتّفق أنّ التغيرات المرتقبة ستشمل بشكل أساسي الفريق الاقتصادي، ما يعكس حسب الصحف المصرية قراراً بتعديلات في السياسة الاقتصادية المصرية، لكن تميل مصادر أخرى للقول إنّ الفريق الاقتصادي الجديد المرتقب قد لا يذهب بعيداً عن السياسات الحالية بل سيعمل على تنفيذها ذاتها ولكن عبر مقاربات مختلفة قد لا تضمن انعكاسات إيجابية بالضرورة، فتحوم التقديرات حول اقتصاديٍّ مصري شهير من الممكن أن يكلّف بتشكيل الحكومة، وهو محمود محي الدين، وما يثير الانتباه في سيرته الذاتية أنه يشغل منصب المدير التنفيذي للبنك الدولي، ويبدو أن الظهور المتكرر له مؤخراً في وسائل الإعلام المصرية يزيد من احتمالية تكليفه بالفعل، وبالرغم من كثافة تصريحاته في الأيام الأخيرة، فإنها تبدو بمجملها "كنصائح للحكومة الحالية" والتي تتمحور حول أفكار أساسية جوهرها إبقاء الأنظار باتجاه المؤسسات الغربية، وربما تسريع تنفيذ التوصيات الغربية التي يحاولون إملاءها على القاهرة، فذكر محي الدين، أن المشكلة السابقة كانت في طريقة إدارة المفاوضات لا في اعتماد مصر على هذه المؤسسات بالذات. ما يمكن أنْ يعتبر نذير شؤم بالرغم من التصريحات الأخرى التي يطلقها حول طاقات مصر الكامنة وغيرها من العبارات العامة التي لا يمكن منها استشفاف طبيعة التوجهات القادمة، هذا إذ جرى تكليفه بالفعل.
بالرغم من كل المؤشرات السلبية للاقتصاد المصري يبدو أنّ هناك تياراً متنامياً يبحث عن بدائل عن المؤسسات الغربية، وخصوصاً مع قبول مصر في مجموعة بريكس، إذ ترتفع نسبة الصفقات بالعملات المحلية وتزيد مصر من تبادلها التجاري مع دول الشرق، ما يمكن أن يتحول خلال فترة قصيرة إلى توّجه عام في السياسات الاقتصادية، ما سيؤدي إلى تخفيف كبير في الضغط المفروض على الجنيه وما ينتج عنه من عمليات نهب جماعي للشعب المصري لصالح الغرب ومؤسساته.