ماذا وراء مباركة الفاتيكان "لارتباط المثليين"؟

ماذا وراء مباركة الفاتيكان "لارتباط المثليين"؟

أعلن الفاتيكان في 18 كانون الأول الجاري قراراً يسمح فيه بابا الكنيسة الكاثوليكية بـ"مباركة" ما وصفه بـ"الارتباط" بين المثليين طالما أنّ ذلك لا يعطي انطباعاً بأنه "زواج". وبغض النظر عن الجدالات الدينية حول "الحرام" و"الحلال"، سنحاول في هذه المادة الإضاءة على المعاني السياسية لمثل هذا القرار.

سمح الفاتيكان بموجب "الفتوى" الجديدة بمباركة "الشركاء في المواقف غير المعتادة والشركاء المثليين دون إجازة وضعهم بشكل رسمي أو إضفاء أي تغيير على تعاليم الكنيسة الدائمة بشأن الزواج".

وبحسب بيان الفاتيكان الذي وافق عليه البابا: من الممكن وفق ظروف معينة "إعطاء البركة للجميع دون السؤال عن أي شيء"، مضيفاً أن "مثل هذه البركات توجَّه للجميع، ولا يجب استبعاد أحد من الحصول عليها".

ومن الواضح أنّ البيان لا يخلو من التناقضات، التي ربما يسهل توجيهها إليه من وجهات نظر دينية، حيث كان بابا الفاتيكان نفسه قد أٌقر بالفعل في أكتوبر الماضي أن الكنيسة لا تزال تعتبر العلاقات المثلية "خطيئة بشكل موضوعي" ولن تعترف بزواج المثليين، الأمر الذي يسمح بسهولة لمن يريد مناقشة الأمر من وجهة نظر دينية، بأن يقول مثلاً أن تحوّل الفاتيكان بهذا الخصوص يعني أحد أمرين: إمّا أنّه بات لا يعتبر الآن العلاقات المثلية "خطيئة" أو أنّ لا مشكلة لديه في "مباركة الخطايا" أو حتى "مباركة الزناة"؟ ولمّا كانت "البركة" في الكنيسة الكاثوليكية تعني صلاة أو نداء يُلقيها عادة كاهن، يطلب من الله أن ينظر بشكل إيجابي ومحبّة إلى الشخص أو الأشخاص المبارَكين، فإنّ القرار الجديد يعني عملياً تغييراً كبيراً للحدود بين "المحرّمات" و"المسموحات" لأتباع الكنيسة الكاثوليكية.

لا نقول ذلك لكي ندخل هنا في محاكمات دينية بخصوص "الحلال" و"الحرام"، بل لكي نفهم لماذا تتورّط مؤسسة دينية في تناقضات كهذه، والذي يمكن أن يفسرها برأينا هو أنّ الموضوع ليس ديني بل سياسي بامتياز.

فما يهمنا هنا هو الدلالة السياسية التي ينطوي عليها البيان الذي يبدو أنه استصدر في محاولة قسرية لتطويع مفاهيم دينية مع سياسة معينة ذات ممارسات وخطاب معيّن للاستثمار السياسي الغربي في قضايا المثليين و"مجتمع الميم" والمتحوّلين جنسياً وما شابه.

فهذا القرار من الفاتيكان يعني هدم بعض الحواجز الدينية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية التي كانت على ما يبدو تمنع اختراق مجتمعات بشرية تعد بالملايين من الكاثوليك ممن يحتكمون لفتاوى الفاتيكان، بحيث تبدأ نسبة منهم بقبول ممارسات معيّنة تفرضها أجندة الاستثمار السياسي الغربي لقضية المثليين... فمثلاً يمكن أن تسهّل فتوى الفاتيكان الجديدة قبول بعض الآباء والأمهات لتعريض أطفالهم لجراحات تحويل الجنس، أو القبول بالترويج في المدارس للنشاطات والدعايات التربوية المرتبطة بهذه الأجندة التي تتعرض في الحقيقة لانتقادات من أبحاث علمية وطبية بأنها تسبب "تشويش" الهوية الجنسية لكثير من الأطفال الطبيعيين وتفتعل لديهم مشكلات نفسية وجسدية أكثر مما تساعد على "اكتشاف الميول الطبيعية" للأقلية المثلية بينهم.

ضغوطات سابقة

أيّد تصويتٌ في شباط الماضي 2023، أجرته شخصيات بارزة في كنيسة إنكلترا مقترحات للسماح بـ "صلاة البركة للأزواج المثليين". وتعني هذه الخطوة أنه يمكن "للزوجين من الجنس نفسه"، وبعد عقد "قرانهما" بشكل مدني، الذهاب إلى الكنيسة الأنجليكانية لأداء "صلاة التكريس والشكر لله والحصول على البركة".

وكان الأساقفة في عدد من البلدان، بما في ذلك بلجيكا وألمانيا، قد بدأوا بالفعل (بشكل مستقل نسبياً عن الفاتيكان كمركز) بالسماح للكهنة بمباركة زواج المثليين، لكن موقف سلطات الكنيسة المركزية ظل غير واضح، حتى أنّ المكتب العقائدي بالفاتيكان كان يعارض هذه الممارسة عام 2021 وحكم بعدم جوازها. ورداً على طلب مجموعة من الكرادلة، قال البابا إنّ الكنيسة تفهم الزواج على أنه "اتحاد حصري ومستقر وغير قابل للانفصال بين رجل وامرأة" ويجب أن تتجنب "أي نوع من الطقوس أو الأسرار المقدسة التي قد تتعارض مع هذه القناعة".

ولذلك لا غرابة بأن مؤسسات سياسية ودينية خاضعة للحكومة الألمانية، كانت من أولى المحتفلين بقرار بابا الفاتيكان فرانسيس بالسماح بمباركة القساوسة الكاثوليك للارتباط بين المثليين، حيث رحب بالقرار رئيس مؤتمر الأساقفة الألمان غيورغ بيتسينغ وقال: "تعرف الممارسة الكنسية عدداً كبيراً من أشكال المباركة. من الجيد أن هذا الكنز تم رفعه الآن لصالح تنوّع نماذج الحياة".

وسياسياً، أشاد بالقرار سفين ليمان (مفوَّض الحكومة الألمانية لشؤون مجتمع الميم). وقال ليمان إن القرار "إشارة تأخّرت طويلاً"، وأردف: "وبالتالي سيحظى بالدعم كل هؤلاء في ألمانيا الذين يرغبون في مباركة الشركاء مثليّي الجنس". وأضاف السياسي المنتمي إلى حزب الخضر: "لا يوجد حب من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية، يوجد الحبّ وحسب". ويبدو أنّ الضغوطات قد تستمر لانتزاع مزيد من التنازلات من الفاتيكان، لأنّ ليمان على سبيل المثال ورغم إشادته، رأى أن التفريق الكنسي بين شراكات "منتظمة" وشراكات "غير منتظمة" والذي يعتزم الفاتيكان القيام به "لا يزال تمييزياً".

من مقارنة التحول في مواقف الفاتيكان، وتحت باباوية الشخص نفسه، يمكننا ترجيح أنه قد مورست ضغوط، ربما لم تتضح وسائلها وحجومها بالكامل حتى الآن، تعرض لها الفاتيكان والكنائس الكاثوليكية من القيادة الغربية لأجندة العولمة والمتاجرة بكلّ القضايا والانقسامات الثانوية لدى الشعوب والاستماتة إلى دفعها وتضخيمها، ومنها استغلال قضايا المثليين لأغراض سياسية واجتماعية تخدم مصالح النخبة الرأسمالية الغربية.

علامَ يدلّ الاضطرار لتجنيد "الكنيسة"

بغض النظر عن كل الجدالات الدينية حول "الحرام" و"الحلال" والتي نكرر بأنها ليست غايتنا هنا، فإنّ أهمّ ما يدلّ عليه قرار الفاتيكان المذكور هو معانيه السياسية كاستجابة للضغوط عليه وتطويعه إلى هذه الدرجة أو تلك ضمن هذه الأجندة. ومع أنّه قد يكون من الأهداف زيادة إبعاد الكنيسة الكاثوليكية عن الأورثوذوكسية الشرقية التي لها موقف تقليدي بشأن المثلية والدعاية المرتبطة بها (ولا سيّما على خلفية العداء الغربي مع روسيا وارتباطاً بالحرب في أوكرانيا)، لكن قرار الفاتيكان الجديد بخصوص المثلية يمكن أن نقرأ فيه دلالتين أساسيتين أكثر عمومية:

  • أولاً - المأزق الذي وصل إليه أصحاب المشروع الرجعي لتفتيت المجتمعات البشرية على أسس ثانوية بعيداً عن القضايا الجذرية المرتبطة بالصراع الطبقي كانقسام أساسي. فمن المعروف جيداً بأنّ العقود الماضية شهدت اعتماد أصحاب هذه الأجندة من أجل ترسيخها وترويجها على تمويل أدوات محسوبة بشكل أو بآخر أنها "يسارية" أو "تقدمية" أو "علمانية" أو "نسوية" وما إلى ذلك، وعلى أحزاب سياسية أو منظمّات "مدنية" غير حكومية NGOs، وحتى على ترويجها ضمن مؤسسات عسكرية (الجيش الأمريكي وجيش الاحتلال "الإسرائيلي" كأمثلة). ولذلك فإنّ توسيعهم للأدوات لتشمل مؤسسات دينية كبيرة كالفاتيكان هو علامة على مأزق لديهم يراوح ما بين "عدم الكفاية" إلى "الفشل" بتحقيق الأهداف المطلوبة بواسطة الأدوات الأخرى غير الدينية، ولا سيّما في وجه تزايد الاحتجاجات في الأوساط العلمية ضدّ مبالغاتهم (كما في تقليلهم من مخاطر جراحات تحويل الجنس مثلاً وخاصة لدى الأطفال والتي ترقى إلى مستوى جرائم)، ولذلك يبدو أنّ ما ضعف الإقناع به بحجج "علمية" يريدون أن يسلّم الناس به عبر "الإيمان".

  • ثانياً – تدلّ استماتة أجندة الاستثمار في قضايا المثلية سواء بطرق "علمانية" أو "دينية" على إخفاقات تمنى بها اليوم أدواتهم الأخرى لتفتيت المجتمعات والسيطرة عليها على أساس فوالق ثانوية "غير جندرية" وغير جنسية (كالطائفية والقومية والعشائرية وغيرها).
آخر تعديل على الثلاثاء, 26 كانون1/ديسمبر 2023 20:50