في المعالجة الروسية للأزمة الأوكرانية
تشي يوميات المواجهة الراهنة بين الغرب والاتحاد الروسي على الساحة الأوكرانية بأن إدارة الروس لمعركتهم حتى الآن لا تعدم الكثير من الدهاء وغير القليل من الحنكة، واللذين لا يجافيهما حزم يستند إلى رؤية واضحة لمدى مصيريتها، وبالتالي الاعتماد المسبق لما تتطلبه من خطة ترتقي لمستواها.
هم، أولاً، لا يمتلكون ترف اغفال مدى استشراء الجنوح التوسعي الغربي المزمن، المتمثل في التوق الأطلسي البائن للتمدد شرقاً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ويستشعرون في راهنهم مدى تحكُّم روح الحرب الباردة الضاربة جذوراً في العقلية الغربية، ولازالوا يعيشون ذات الهواجس التي أيقظتها فيهم فتائل “الثورات البرتقالية” الموجَّهة، أو مسبقة الصنع، التي أُشعلت بين ظهراني مداهم الحيوي ودواخل حدائقهم السوفيتية السابقة، وعليه، فهم يتحسبون بأن أية خسارة لهم في الساحة الأوكرانية ستكون بمثابة الخطوة باتجاه انتقال هذه المواجهة للداخل الروسي عينه… وهذا وحده كافٍ لأن يخلع عليها سمة المصيرية بالنسبة اليهم.
وتالياً، لا تغب عن فطنتهم في لجة مثل هذه المواجهة مسألتان، أولاهما: أن الغرب في حقبة الأفول الأميركي، واتون ازماته الاقتصادية المستفحلة، وتهيبه الناجم عن حدود قدراته في شن حروبه في ظلهما، يفضِّل حسم معركته معهم من خلال استدراجهم الى نوع من الورطة الأوكرانية، عبر دفعهم إلى نوع من التدخل المباشر، الأمر الذي يذكِّرهم بسابقتهم السوفيتية الأفغانية… وهم هنا على ما يبدو لا ينظرون لتحركات الناتو في كل من بولندا ورومانيا ودول البلطيق والبحر الأسود اكثر من كونها لا تتجاوز الطابع الردعي، فى المدى القريب على الأقل، واجمالاً، لعلها واحدة من مستلزمات ردود الفعل المستوجبة، كما وإنها لا تتناقض مع متطلبات ادارة الأحبولة الأوكرانية الغربية المراد ايقاعهم في شركها… لعل فيما قد سبق ما يفسِّر لنا السر فيما بدى من المرونة الديبلوماسية وكل هذا الصبر والحذر الذي اتسمت به المواقف الروسية المعلنة، المرافقة لمعالجتهم لما يجري في الشرق والجنوب الأوكراني المتمرد على سلطات كييف والخارج عليها، أو عدم اللجوء حتى الآن إلى المثال الذي سبق وأن كان منهم في حالة القرم.
وثانيهما: عدم اغفال الروس لحسابات موازين القوى الراهنة بينهم وبين الغرب، رغم ادراكهم لمستجد التحولات التي غشت احوال خصومهم وسبقت إشارتنا اليها، الى جانب اخذهم في الحسبان هشاشة واقعهم الاقتصادي، وأنهم عموماً لم يغادروا بعد حدود حالة الاستنهاض وبدايات محاولات استعادة غابر الدور الكوني المفتقد إثر الكبوة السوفيتية، أي كل ما يستوجب منهم التحسب لمحاذير ما يستدرجهم الغرب الية. أما ما يتعلق بالعقوبات التي لا يمل الغرب من التلويح بسوطها فهم لا يأخذونها مأخذ الجد، لاسيما وهم يسمعون ويشاهدون بادي عدم التوافق بين الأطراف الغربية على مداها أو على جديتها، أو هذه الاختلافات غير المكتومة حول مستواها، خصوصاً وإن ملك ايديهم ، أي الروس، ورقة الطاقة المهمة والمؤثرة، ولذا فهم لا يكفون عن التلويح لخصومهم بإشهار سلاح الغاز، مدركين مدى فعاليته في انتفاء توافقهم والحؤول دون جدية وخطورة هذه العقوبات التي يجري تهديدهم أوابتزازهم بها.
لما سبق، ولأن الروس ليسوا في حاجة اصلاً ولا مضطرين لتدخل مباشرفي أوكراينا، ونرجِّح أنهم لن يفعلوا، يستلون سلاح المعارضة الشعبية الفاعل ويكتفون به حتى الآن في شرق وجنوب أوكراينا المواليين لهم، أو رفع شعار “حقوق الأقاليم”، لإرباك كييف، وشلها سياسياً، واضعاف سلطتها المركزية، واستنزاف قدراتها العسكرية والأمنية، واحداث الانشقاقات في صفوف جيشها، أو كل ما هو حاصل ويحصل الآن هناك ومن شأنه أن يعيق اطلستها أو يحول دونه….وإذ ما من كلفة في مثل هذا بالنسبة لهم، فإن اعتماده يمنحهم فرصة ثمينة في امكانية توسيع هامش المناورة، إن سياسياً أو عسكرياً، ويمكنهم من متابعة مراقبتهم الميدانية المستمرة للتطورات الجارية والتصرف وفقما تقتضيه اتجاهاتها ومآلاتها…لذا فإن ما جرى أو سيجري في كل من مقاطعتي دانتيسك ولوغانسك، على سبيل المثال، لا يبدو عشوائياً، وإنما ينطلق من خلال ما يتبدى أنه الخطط المدروسة التي تنفذ بثقة واناة وتدرُّج وحزم، أو هو انموذج عملي لمثل هذا الخيار الروسي الفاعل… استفتاء شعبي بأغلبية كاسحة مع الانفصال عن اوكراينا والالتحاق بالاتحاد الروسي. جمهوريات شعبيات مفتوحة الحدود مع روسيا، مساحتها تعادل مساحة بريطانيا، تتدارس الوحدة فيما بينها وتطالب بها مع روسيا، وفي نفس الوقت تعلن جاهزيتها للانخراط في مفاوضات مع السلطة الراهنة في كييف حول الأزمة، في حين تؤيد موسكو خارطة الطريق التي اقترحتها منظمة التعاون والأمن الأوروبية وتبدي كييف تحفظها على بعض تفاصيلها…هذه الخارطة التي إن هي فشلت، وكذا سواها من مبادرات لحلول شبيهة قد تلحق للحفاظ على شكل ما لوحدة أوكرانيا الصعبة، فإن هذا البلد مصيره التجزأة لامحالة، مع امكانية أن يحوله الروس من جانبهم إلى عكس ما يريده الغربيون، أي ساحة استنزاف للأطلسي وليس للاتحاد الروسي. أما أن نجحت الحلول في نهاية المطاف وبقيت أوكراينا المنقسمة تاريخياً وثقافياً وسياسياً موَّحدة، فهي لن تكون في مثل هذه الحالة إلا فدرالية ومحايدة وفق المثال الفنلندي الذي يرتضيه الروس.
المصدر: نشرة كنعان