ما سر التغييرات في السياسات التركية المالية؟
قرر المصرف المركزي التركي رفع سعر الفائدة 650 نقطة أساس (6.5%)، الخطوة التي وصفها البعض بالصادمة، وذلك بالرغم من مؤشرات عدّة أنذرت بتغيير كبير في السياسية النقدية التي كانت متبعة خلال الولاية السابقة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. المشكلة الأساسية تكمن في أن تغيير هذه السياسية يتطلب جملة من القرارات والإجراءات التي بدأت للتو ولا يمكن الجزم في مآلها الأخير، لكن هذا لا يمنع من تسجيل بعض الملاحظات الأولية.
مع انتهاء الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية في تركيا، وفوز أردوغان بفارق 4% تقريباً، شكّل الرئيس المنتخب حكومة جديدة أثارت العديد من التساؤلات، لا مجال للخوض بكل تفاصيلها الآن، لكن تعيين اقتصاديين وخبراء ماليين ذوي ميول ليبرالية واضحة في مناصب حيوية كان المؤشر الأكبر على طبيعة التغيير القادم، فالمسؤولون الجدد عملوا في المؤسسات المالية الغربية لفترات طويلة، والتي يبدو أنها سمحت لهم بتشكيل علاقات بالطغم المالية الغربية.
تكنوقراط أم ماذا؟
يتردد في عدد من المنابر الإعلامية فكرة مفادها، أن تعيين خبراء من هذا النوع من شأنه أن يحل المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد التركي، وينطلق أصحاب هذا الرأي من ضرورة وضع صلاحية رسم وتنفيذ السياسة المالية والاقتصادية بأيدي خبراء وبعيداً عن تدخل الرئاسة التركية - ذات الصلاحيات الواسعة - في هذه المسألة، متجاهلين بذلك أن هذه السياسات بالتحديد ذات جوهر سياسي أولاً، ولا يمكن النظر إليها بوصفها مسألة تقنية صرفة. وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن القرار باعتمادها - إن سارت بالاتجاه المتوقع - كان قراراً سياسياً بامتياز. وهذا ما يضع أمامنا مجموعة من الأسئلة: هل يمكن أن تؤدي سياسات كهذه الدور المأمول وعلاج مشكلات الاقتصاد التركي؟ وما السر وراء هذا التغيير بعد الإصرار والتمسك بالسياسات السابقة؟
بين السياسات القديمة والجديدة
الملامح الأولية للسياسات الجديدة تقوم على الفكرة الشائعة لمعالجة التضخم، التي تبنى على أساس اعتماد «سياسة نقدية متشددة» تعمل على سحب أكبر كم من السيولة من التداول، وتسعى إلى ذلك عبر رفع معدلات الفائدة، ما يؤدي بدوره إلى دفع الاقتصاد إلى حالة من الركود ويرفع البطالة، فالفائدة المرتفعة تؤثر بشكل ملموس على الإقراض وتقلل الاستثمار في الاقتصاد، إذ تتجه رؤوس الأموال للإيداع في البنوك والاستثمار بسندات الخزينة التي يفترض أن تعطي مردوداً أكبر، ما يؤدي نظرياً إلى خفض معدلات التضخم. لكن السياسة السابقة، التي كانت معتمدة، لم تكن تنسجم مع الوصفات الليبرالية الجاهزة، إذ سعى أردوغان بدلاً من ذلك، لخفض معدلات الفائدة أملاً في تنشيط الاقتصاد الحقيقي القادر على زيادة الكتلة السلعية ما يسهم في استعادة التوازن بين الكتلتين السلعية والنقدية، ويخفض - على المدى المتوسط والبعيد - التضخم الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد التركي. لكنها لا تؤدي بطبيعة الحال لنتائج ملموسة فوراً.
ويمكن لنا القول إنّ مؤشرات النمو الإيجابية للناتج الإجمالي التركي وانخفاض معدلات البطالة في المدّة الماضية تُرَدُّ إلى ازدياد النشاط الاقتصادي في البلاد، فحقق الاقتصاد معدلات نمو مرتفعة وصلت إلى 5.6% بنهاية عام 2022، وقدر بـ5% في الربع الأول من عام 2023.
ما مبررات تغيير السياسات الآن؟
المدّة الماضية لم تكن الأفضل بالنسبة لتركيا، فالاقتصاد هناك مرتبط بشكل كبير بالاقتصاد العالمي الذي عانى من انتكاسات متكررة جرى ربطها بشكل مبسَّط بتداعيات فيروس كورونا والحرب المشتعلة في أوروبا، وجاء الزلزال الذي ضرب تركيا ليفاقم المشكلة ويزيد من الضغوط على الخزينة، إذ تقول التقديرات إنّ خسائر الزلزال بلغت 34.2 مليار دولار، وتذهب تقديرات أخرى للقول إنّ إعادة الإعمار التي تحتاجها المناطق المتضررة تحتاج إلى 100 مليار دولار، مما يدفع البعض لفهم تبني السياسات الجديدة من منطلق أنها ترسل إشارات طَمأَنَة للمؤسسات المالية الغربية، التي يمكن أن تقدم قروض مثل الأخير الذي حصلت عليه تركيا من البنك الدولي، وتجذب الاستثمارات الأجنبية إلى السوق المحلية. وبالرغم من أنه لا يمكن رفض هذا التفسير بالمطلق، فإنه يبقى قاصراً دون شك! فالعالم اليوم قادر على تأمين بدائل عن المؤسسات الغربية وكان يمكن نظرياً أن تلجأ تركيا إلى خيارات بديلة عن القروض الغربية. لكن جانباً آخر من المسألة لا يجري نقاشه جدّيّاً، وهو المرتبط تحديداً بالوضع السياسي الداخلي في تركيا، فالانتخابات الأخيرة وضّحت حجم الصراع السياسي الداخلي، وكان فوز أردوغان يختلف عن الطموحات الغربية والأمريكية التي كانت تميل بشكل واضح لمنافسه من حزب الشعب، ما يمكن أن يفسر أن أردوغان كان مضطراً لتنفيس حالة الضغط الداخلي عبر مهادنة مؤقتة مع الغرب أو ما يمكن وصفه بأنه تراجع منظَّم، مؤقَّت ومدروس.
الملامح العامة للسياسات الجديدة لم تتضح بعد، ولا يمكن فهمها بالنظر إلى متغير واحد، حتى وإن كان الحديث عن مسألة حيوية مثل معدلات الفائدة، فهناك تغيرات متزامنة في السياسية المتبعة لدعم الليرة التركية، وهناك إجراءات أخرى ذات طابع اقتصادي-اجتماعي، هذا بالإضافة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن رفع معدلات الفائدة حسب الإعلان الرسمي جاء أقل من التوقّعات، إذ لا يزال الفرق كبيراً بين معدلات الفائدة الحالية التي وصلت بعد الزيادة الأخيرة إلى 15% ومعدلات التضخم التي تقارب 39%.