«وحدة الساحات» شوكة بحَلْق الاحتلال ويراهن على تفكيكها
لم تتوقف انتهاكات الاحتلال خلال شهر رمضان الفائت رغم اضطرار نتنياهو إلى التراجع تحت ضربات المقاومة داخل الأراضي المحتلة ومن الجبهات المحيطة شمالاً وجنوباً، فأعلن إيقافاً مؤقتاً للسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى خلال الأيام العشرة الأخيرة من الشهر، ولكن استأنف المستوطنون اقتحامات الأقصى مجدّداً، وشهدت الأيام الأخيرة عدة عمليات نوعية للمقاومة في القدس والضفة الغربية أكّدت على أنّ العدوّ لن يشعر بالأمان إطلاقاً طالما استمر باحتلاله واعتداءاته...
وبينما كثّفت وسائل إعلام الاحتلال الحديث مؤخّراً عن نوايا لاغتيال قيادات في المقاومة الفلسطينية، حذّرته المقاومة من ردود «موجعة وموحَّدة بين الداخل والخارج وجبهات المقاومة المختلفة»، وسط تقارير أمنية «إسرائيلية» أخذت تسمّي بصريح العبارة «وحدة الساحات» كخطرٍ استراتيجي متزايد على الكيان وأنّه بحاجة ملحّة لبحث كيفية «تفكيك الساحات».
وفي استئناف الاحتلال سياسة الاقتحامات جدّدت مجموعات من المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى، صباح الأربعاء 26 نيسان 2023 ونفّذت عدة انتهاكات، تحت حراسة مشدّدة من قوات الاحتلال، كما اقتحمت شرطته مصلّى «باب الرحمة» في المسجد، وقدّرت مصادر فلسطينية عدد المقتحمين بأكثر من 450 حتى ساعات المساء من اليوم نفسه، وأضافت أنّ المستوطنين رفعوا أعلام كيان الاحتلال في باحات المسجد وأدّوا صلوات تلمودية واستفزازات. وفي الخليل، استباح الاحتلال المسجد الإبراهيمي ورفع أعلامه عليه وسمح للمستوطنين بإقامة الحفلات فيه.
ودعت جهات فلسطينية ومقدسيّة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، للمشاركة الفاعلة في أداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى والإبراهيمي وتنظيم مشاركة حاشدة الجمعة المقبلة 28 نيسان، تحت عنوان «فجر باب الرحمة»، للتصدّي لاقتحامات المستوطنين واعتداءات الاحتلال.
فشل مزدوج للكيان في يوم ذكرى قتلاه
بلغ عدد القتلى «الإسرائيليين» جرّاء الحروب التي شنّها الصهاينة في أرض فلسطين التاريخية أو الهجمات التي تعرّضوا لها، 24 ألفًا و213 قتيلًا، بحسب معلومات نشرتها وسائل إعلام الاحتلال بمناسبة يوم ذكرى جنود ومستوطني الاحتلال القتلى، ومنهم 4255 قتيلًا جرّاء العمليات الفدائية. علماً أنّ كيان الاحتلال يحصي قتلاه لهذه المناسبة منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين التاريخية عام 1860، أي قبل 88 سنة من النكبة وإعلان قيام كيان الاحتلال/«إسرائيل».
وهذه المناسبة التي يسمّيها الصهاينة «يوم الذكرى» لقتلى معارك «إسرائيل»، كانت في العادة مناسبةً يظهر فيها «الإسرائيليون» تضامنهم مع ذوي قتلاهم ويزورون مقابرهم، ويمتنع سياسيو الاحتلال عن استغلالها للمناكفات الحزبية، أما الذي حصل هذه السنة فهو العكس تماماً، على خلفية الانقسام الحاد في صفوف الاحتلال ولا سيّما عقب أزمة «الإصلاحات القضائية» لحكومة نتنياهو.
فشهد عددٌ من المقابر العسكرية ملاسنات ومشاحنات بين أنصار حكومة نتنياهو ومعارضيها، وخاصّة من ذوي الجنود القتلى الذين طالبوا السياسيين بالامتناع عن حضور المراسم وإلقاء الخطابات، منوّهين أنّ بعضهم، مثل وزير «الأمن القومي» إتمار بن غبير، لم يؤدِّ أصلًا الخدمة العسكرية الإلزامية في جيش الاحتلال، وبالفعل تعالى صراخ احتجاجات بعض عائلات القتلى الصهاينة حالما بدأ بن غبير يلقي خطاباً في إحدى المقابر، وحدث شيء مماثل مع نتنياهو أيضاً، وعدد آخر من وزراء الاحتلال في عدة مقابر.
وهكذا تحوّلت المناسبة لتبرز هذه المرة ليس فقط «انقسام» الاحتلال بدلاً من وحدته، بل وعززت أيضاً مشهد فشله الأمني، حيث تمكّن المقاومون الفلسطينيون من فرض حضورهم عبر عدة عمليات فدائية، إحداها اقتربت لنحو 200 متراً من فعالية مخصصة لهذه المناسبة بالذات كان يحضرها نتنياهو شخصياً، حيث نفّذ الفلسطيني حاتم أبو نجمة (39 عاماً) عملية دهس في شارع يافا غرب القدس المحتلة، مساء الإثنين 24 نيسان الجاري، أسفرت عن إصابة 8 مستوطنين أحدهم بحالة خطيرة.
وفي الأسبوع الذي سبق ذلك كانت العملية الفدائية الأبرز هي إطلاق نارٍ من رشاش «كارلو» نفّذها شاب في حيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، صباح الثلاثاء 18 نيسان 2023، أسفرت عن إصابة مستوطنين بجراح، في تحوّل مهمّ لرمزية هذا الحيّ من صورة «ضحية» يجب إنقاذها إلى مكانٍ يدفع الظالم للتفكير «بإنقاذ نفسه» منه.
وكان جيش الاحتلال فرض منذ الأحد الماضي على مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة طوقاً أمنياً خشية وقوع عمليات بالتزامن مع احتفالات ما يسميه عيد «استقلاله»، المتزامن مع النكبة الفلسطينية، ولكن لم يحل هذا الأمر حتى الآن دون تواصل العمليات الفدائية، بما فيها الهجمات المتكررة على حواجز الاحتلال بمحيط جنين ونابلس، وهما من أبرز بؤر المقاومة في الضفة حيث لا يكفّ الاحتلال عن اقتحامهما وممارسة القتل والاعتقال فيهما.
المقاومة تحذّر العدوّ من اغتيالات لقادتها
عقب عمليات القصف التي نفّذتها المقاومة من ساحات مختلفة (غزة، ولبنان، وسورية)، تزامناً مع الضربات الفدائية في الضفة والقدس والعمق، أطلق قادة الاحتلال تهديدات باستهداف قادة المقاومة، تزامناً مع اتهامات من جانب قادة عسكريين سابقين ومحلّلين وصحفيين لحكومة نتنياهو بتحطيم صورة «الردع الإسرائيلي»، ودعوتهم لاتخاذ خطوات لتفتيت الوحدة بين ساحات المقاومة.
ولكن الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة قالت بأنها رفعت التأهّب بعد تفاهمات أكّدت فيها استعدادها للرّد على أيّ عملية اغتيال قد يرتكبها الاحتلال، واستنفرت وحداتها القتالية وشددت على «وحدة الساحات». وبحسب ما نقلت صحيفة «الأخبار» اللبنانية عن مصادر في فصائل المقاومة فإنّ «الردّ سيكون منسَّقاً داخلياً بين الفصائل، وبينها وبين محور المقاومة»، وأكدت أنّ «المقاومة متحسّبة لإمكانية إساءة العدو التقدير بخصوص ردّة فعلها على هكذا جريمة».
الاحتلال يفكّر بتنازلات ويأمل «بتفكيك الساحات»
منذ أيام، توالت تقارير الاحتلال الأمنية التي تصبّ في اتجاه تشخيص حالة الضعف غير المسبوقة والشعور بالتهديد من عدة جبهات، فقال وزير جيش الاحتلال، يوآف غالانت: «لقد عملنا لسنوات بناء على افتراض أنه يمكن إجراء مواجهات محدودة، لكن هذه ظاهرة آخذة في التلاشي. اليوم، هناك ظاهرة ملحوظة ومتصاعدة لتوحيد الساحات».
وبدوره قال رئيس مخابرات الاحتلال «الشاباك»، رونين بار، إنّ الواقع الأمني ازداد تعقيداً مع اتساع جبهات المقاومة والشعور باتحادها.
واعتبر رئيس معهد «القدس» للاستراتيجية والأمن، أفرايم عنبر، أنّ جيش الاحتلال «يجب أن يستعد لحرب استباقية في الشمال للقضاء على التهديد الصاروخي للمنشآت الاستراتيجية للبلاد قبل التعامل مع الأسلحة النووية الإيرانية».
شعور كيان الاحتلال بانكشافه أكثر فأكثر في إقليمٍ يشهد تغييرات استراتيجية تترجم ميزان القوى العالمي المتزايد في رجحانه ضدّ المصالح الأمريكية-الصهيونية وصل إلى حد التخوف من كلّ جبهة محتملة وأخذها على محمل الجد، فلقد حذّر الضابط السابق في جيش الاحتلال يهوشاع كاليسكي، وهو أيضاً باحث في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة «تل أبيب»، من أنّ الاتفاق الإيراني-السعودي قد يمنح جماعة «أنصار الله» الحوثيّة فرصة أكبر للتركيز على بناء مسار لاستهداف المواقع «الإسرائيلية»، خاصة في «إيلات»، ما يعني احتمال فتح جبهة جديدة من اليمن.
وفي دراسة سابقة عقب اشتراك أكثر من جبهة في قصف أهدافٍ للاحتلال، قال المعهد نفسه إنّ أهداف المقاومة من سياسة «وحدة الساحات» هي تثبيت «إسرائيل في حدودها» على حدّ تعبيره، وإقامة بنية تحتية للمقاومة في لبنان، وتسريع انتهاء عهد السلطة بالصيغة الحالية، وتوجيه المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 نحو الاندماج في المواجهة، والمسّ بعملية التطبيع مع الدول العربية.
وصل الأمر بحالة الضعف التي يشهدها الاحتلال بأنْ قدّم بعض خبرائه نصائح صريحة بتقديم تنازلات. مثلاً، الجنرال غيورا آيلند، في مقال نشره بصحيفة «يديعوت أحرونوت» وبعد أن ركّز على أنّ أبرز التحديات هي «وحدة الساحات»، قال إنّ على «إسرائيل» تنفيذ سلسلة خطوات لإعادة «فصل الساحات»: «إصلاح الضرر الذي نجم عن جملة تصريحات غير مسؤولة لوزراء ونواب فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، والأردن، والإمارات، والولايات المتحدة، والتسوية مرة واحدة وإلى الأبد للوضع في المسجد الأقصى، وعدم الإعلان عن ضم غور الأردن، وممارسة الضغوط على غزة». وهو كلام يكشف خفض سقف الآمال لدى الاحتلال، حتى من مسار التطبيع.