أوكرانيا: اختبار لغلبة بوتين على محاولات الاستدراج والتطويق الأميركية
يعد الديبلوماسي والمفكر الاستراتيجي الاميركي، جورج كينان، الاب الروحي لسياسة “الاحتواء،” التي انتهجتها الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. واشتهر بالقول ان “.. الطبيعة الذاتية (للنظم) الديموقراطية تعيق قدرتها على بلورة استراتيجية واقعية ..” مطالبا باجراء مراجعة دائمة للاستراتيجية الكونية المعتمدة وتعزيز القدرات العسكرية باستمرار. كما طالب بجرأة في كتاب نشره عام 1993، The Cragged Hill، بتقسيم الولايات المتحدة الى “12 جمهورية صغرى لتيسير ادارتها.”
اتساقا مع النزعة الفكرية الاميركية المتأصلة في تحقيق ضالة التوسع والهيمنة المنشودة، انتقل مركز ثقل استراتيجيتها العالمية، بعد اعاقة تحقيق اهدافها في سورية، مباشرة الى الحديقة الخلفية لروسيا، اذ جرى تهيئة “الثورة البرتقالية” منذ افول الاتحاد السوفياتي لاطلاقها عند نضوج ظروف الصراع مع روسيا. ومشت الادارة حائرة بعد تصعيد لهجة خطابها السياسي والتهديد باجراءات المقاطعة الاقتصادية ضد روسيا التي لم تنكسر شوكتها وصعدت بالمقابل من اجراءاتها واستعدادها للمواجهة.
فوجئت الادارة الاميركية بحالة الانقسام الداخلي حول الوسيلة الانجع اتباعها في مواجهة روسيا، نظرا لتشبع الساسة لثقافة المواجهة منذ ما ينوف عن نصف قرن من الزمن، جسدتها الخلافات الحزبية في الكونغرس بين الجمهوريين المطالبين بالمضي في فرض نظام عقوبات متشددة، ونظرائهم في الحزب الديموقراطي الذين تباينت اراءهم حول الأمر. السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام شدد على ضرورة “مقاطعة قطاع الطاقة الروسي، وقطاع المصارف المالية في روسيا، والعمل على الاطاحة بالاقتصاد الروسي .. كما العمل على توريد السلاح للشعب الاوكراني وتمكينه من الدفاع عن نفسه.” لا ينفك الثنائي المتشدد غراهام-ماكين عن حث الادارة الاميركية للانخراط مباشرة في الصراع الدائر في اوكرانيا. وهرعت صحيفة “وول ستريت جورنال” الى الاصطفاف لجانب طروحات الثنائي بالقول ان الاسلحة المقصودة لاوكرانيا هي “دفاعية لكنها فتاكة – تشمل الغام ضد الدروع والمدافع، وتوفير مزيد من العتاد الذي من شأنه رفع كلفة وخطورة التدخل” الروسي.
مستشار الأمن القومي الاسبق، زبغنيو بريجينسكي، اوضح في مقابلة مع شبكة (سي ان ان) للتلفزة ان الولايات المتحدة والدول الغربية الحليف خلقت ظروفا مؤاتية لضغط الرأي العام على قادتها “لتوفير معونات عاجلة لاوكرانيا، ربما ليس عبر تدخل عسكري مباشر، بل بمعدات تسليحية .. وانا اضيف بصراحة انه لا ينبغي علينا الاخفاق او التردد في تحقيق ذلك ..” مستدركا انه ينبغي تفادي اي تصرفات او ردود افعال “من شأنها الحط من مكانة الروس بل التقدم بعرض صفقة تتيح لاوكرانيا فرصة التحالف بحرية مع الاتحاد الاوروبي والابقاء على علاقة طبيعية مع روسيا في نفس الوقت .. اي وضع مثيل لما هو الحال عليه مع فنلندا.” (13 نيسان 2014)
رئيس لجنة العلاقات الخارجية عن الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، بوب مننديز، اوضح حجم الانقسام بين اعضاء لجنته على خلفية تقييم الموقف حول روسيا، بخلاف انسجام المواقف بين مننديز ونظيره الجمهوري بوب كوركر في اللجنة المذكورة عند مصادقتهما سوياً على قرار يجيز التدخل العسكري الاميركي في سورية، قبيل اندلاع الازمة الاوكرانية.
يشار ايضا في هذا الصدد ان الرئيس الاميركي الاسبق، دوايت ايزنهاور، احجم عن تسليح “المعارضين في المجر،” ابان احداث عام 1956؛ كما احجم الرئيس ليندون جونسون عن تسليح المحتجين في “ربيع براغ” عام 1968 خشية الانجرار الى مواجهة اميركية مباشرة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك.
وسارعت ادارة الرئيس اوباما الى حشد قواها للترويج لسياسة “الانخراط الاميركي” في الشؤون الدولية، مستبقة دعوات المطالبة بالانسحاب من الالتزامات الخارجية والالتفات لترميم الاوضاع الداخلية. في هذا السياق، برز وزير الدفاع الاميركي، تشاك هيغل، محاضرا مطلع الاسبوع الجاري امام حشد نخبوي “لمجلس شيكاغو للعلاقات الدولية” محذرا من خطورة دعوات الانكفاء التي “ستترك تداعيات قاسية من شأنها الحاق الضرر بالاميركيين انفسهم.” وسعى هيغل للتوفيق بين مهمة تعزيز القوة العسكرية الاميركية وهيبتها غير الكافية للجمع بين “الدفاع عن الأمن القومي الاميركي والنظام العالمي” في آن واحد.
تخفيض ميزانية الدفاع الاميركية رافقها تنامي مطالبتها لحلفائها في حلف الناتو بضرورة زيادة نسبة مساهماتهم في الميزانية العسكرية للحلف، بيد ان الاعضاء لديهم اولويات اخرى في ظل تردي اوضاع بلادهم الاقتصادية. يشار في هذا الصدد انه منذ عهد وزير الدفاع السابق، روبرت غيتس، درجت البنتاغون على “الترديد امام الحلفاء الاوروبيين عن ضيق ذرع اعضاء الكونغرس لاضطرارهم تعويض حصصهم الدفاعية في الحلف ضمانا للأمن الاوروبي.” واوضح عضو الكونغرس الجمهوري مايك تيرنر حجم الأزمة بأنه “يتعين على الاوروبيين الكف عن تحويل كلفة أمنهم الدفاعي الى الولايات المتحدة،” مستدركا ان متطلبات الأمن القومي الاميركي تستدعي توفير التدابير المطلوبة “لضمان ردع عدوان روسي.”
مجلة “الايكونوميست” الرصينة عنونت غلاف عددها الاسبوع الجاري متسائلة “ماذا تنوي اميركا القتال لأجله؟” للدلالة على الاخفاقات المتتالية للاستراتيجية الاميركية في “شبه جزيرة القرم واوكرانيا وسورية،” كما اوضحت. واوجز المعلق السياسي المقرب من دوائر صنع القرار، فريد زكريا، مأزق الرئيس اوباما في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست، 9 ايار، قائلا “مشكلة أوباما هو أنه يدلي بتصريحات هامة بشأن قضايا لا ينوي استخدام القوة الأمريكية فيها، وتعتبر سورية والربيع العربي الأمثلة الأوضح على ذلك. فقد أصبح الخطاب السياسي بديلاً عن العمل، وفي القضايا التي انخرطت فيها الولايات المتحدة – مثل أوكرانيا وآسيا – كانت تصريحاته صامتة بغرابة .. كان الرئيس يتحدث (أمام القادة الأوروبيين حول أوكرانيا) عن التدابير التي لن يتخذها بدلاً من تلك التي سينفذها بالفعل.”
وما لبث الساسة الاميركيون ان تنفسوا الصعداء عقب اعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن نيته سحب القوات الروسية المرابطة بالقرب من الحدود مع اوكرانيا، واستمر الجدل الداخلي حول مغزى الخطوة ان كانت كافية “للتساوق مع مطلب الولايات المتحدة بنزع فتيل الازمة،” او”على الاقل اعطاء الدليل على ان روسيا تسعى لذلك،” كما جاهد معهد ستراتفور الاستخباري في سرديته لايجاد بارقة أمل للخروج من الازمة. وارفق اعلانه بمناشدة قادة “جمهورية دونيتسك الشعبية” تأجيل موعد استفتائهم لقياس دعم المواطنين للاستقلال عن الحكومة المركزية في كييف. رد قادة “الجمهورية” باعلان عزمهم المضي في اجراء الاستفتاء في موعده يوم الاحد 11 ايار الجاري “لخشيتهم من فقدان مصداقيتهم امام الجمهور ان استجابوا لطلب الرئيس بوتين.”
مجلة “تايم” اعربت عن “ضيق ذرع الاستراتيجيين الغربيين لرزانة ودهاء الرئيس الروسي الواثق من نفسه .. والذين عكفوا على مراجعة شاملة لفرضياتهم السابقة حول الاستقراء والتنبؤ بالخطوات المستقبلية التي قد يقدم عليها .. والتي جاءت على نقيض استنتاجاتهم.” وبناء على ما تقدم، لا زالت مخاوف وهواجس عقلية الحرب الباردة مسيطرة على صناع القرار، سياسيين وعسكريين، وقد ينجم عنها التوصل الى تقديرات خاطئة وربما غير مسؤولة من شأنها ان تقود الى اتخاذ قرارات سياسية قاصرة.
لعل النظرة الادق والاكثر واقعية هي التوجه لرؤية القضايا الماثلة من منظار الطرف الذي يتحكم بزمام المبادرة، اي روسيا والرئيس بوتين.
تباشير المستقبل في عيون بوتين
الدور المركزي للرئيس فلاديمير بوتين في اعادة نبض الحياة الى روسيا وتعزيز هيبتها ليس محط جدل ونقاش، سيما في ظل الادراك الجمعي لدول وقادة العالم ان روسيا “تستعرض” عضلاتها العسكرية والاقتصادية لتحقيق مآربها في ظل ولاية الرئيس بوتين. بعض المكونات السابقة للاتحاد السوفياتي تنظر بقلق شديد لما يجري في اوكرانيا وامكانية تشظيها الى عدة مقاطعات متناثرة. ويكثر الحديث عن “نهضة الدب الروسي بعد سبات عميق” للدلالة على عمق القلق داخل اوساط بلدان اوروبا الشرقية آخذين بعين الاعتبار الفارق الزمني والجيوسياسي لما كان عليه الأمر ابان نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق. فما تبقى لروسيا اليوم من نفوذ لا يقاس بسابقه الاتحاد السوفياتي، سيما لتقلص مساحة الجغرافيا وما ينجم عنها من تراجع في الموارد الصناعية، وبروز مؤسسات وهيكلة للدولة خالية من اجراءات الفساد السابقة، فضلا عن اقدمية العامل البشري. بالمقارنة، فان وضع حلف الناتو مميز بحجمه الاقتصادي والعسكري عند النظر الى الارقام والاحصائيات الجامدة. واستنادا الى القاعدة القائلة بأن القوة والهيبة العسكرية هي نتاج القوة الاقتصادية، فان حلف الناتو يتفوق على روسيا اليوم، خاصة عند الاخذ بعين الاعتبار ان عددا من دول حلف وارسو المنحل انتقلت الى عضوية حلف الناتو، بعداء واضح لروسيا.
يعتبر الخبراء العسكريون في الغرب ان روسيا لا تزال تسعى للحاق بالتقنية العسكرية الغربية، على الرغم من تنامي استثماراتها في هذا المجال، واقرارهم بأن روسيا حققت بعض التقدم على خصومها الغربيين في بعض الاسلحة كتقنية الطائرات المقاتلة والدفاعات الجوية وشؤون الفضاء، بيد انها لا تستطيع الضخ بمزيد من اموال الاستثمارات في مجالات اخرى. ويشير هؤلاء الى احدث مدرعة في سلاح البر الروسي، تي-90، وان الاقبال على شرائها بقي محدوداً مع تحويل الجيش الروسي اولوياته الى تطوير الجيل الجديد منها، تي-99، كعربة قتالية متعددة المهام من المقرر ان تدخل الخدمة الفعلية عام 2020.
تتفاقم جهود روسيا تحديث اسلحتها، وفق اولئك الخبراء، مع عدم قدرتها على التغلب على ارتفاع كلفة الانتاج وحال المصانع الحربية الراهنة. ويشيرون الى رغبة سلاح الجو الروسي بتحديث اسطوله من مقاتلات ميغ-29 الى النموذج الاكثر تطورا، ميغ-29 اس ام تي، والعقبات المالية التي واجهته لادخالها الخدمة ضمن الفترة الزمنية المنشودة. يشار ايضا الى ان تراكم عدد من التحديات اثناء فترة التصميم ومراقبة الجودة ادت الى تأجيل تسليم نحو 37 مقاتلة من طراز اس يو – 35 الى نحو سنتين اضافيتين، والتي لن تدخل ترسانة سلاح الجو الا عام 2016.
كما اضطرت روسيا الى النظر خارج اراضيها لاستيراد بعض الاسلحة المتطورة لجسر الهوة القائمة في تحديث تقنيتها، منها طائرات الدرونز من الكيان “الاسرائيلي،” وعربات مقاتلة خفيفة الحركة من طراز آيفكو الايطالية، وسفن ميسترال البرمائية من فرنسا. وقد تتضرر جداول تسليم تلك الاسلحة نتيجة الاحداث الاوكرانية والضغوط الاميركية على حلفائها الاوروبيين لمعاقبة روسيا.
يشار ايضا الى المتاعب الاضافية التي واجهت روسيا في عملية تحديث كافة مراحل الانتاج العسكري الناجمة عن خروج بعض المكونات السابقة للاتحاد السوفياتي عنها، والتي احتفظت بالبنى التحتية الحديثة للمصانع الانتاجية على اراضيها وحرمت روسيا من استغلالها، بينما احتفظت داخل اراضيها بالبنى القديمة لمصانع الانتاج. وشهدت تلك المرحلة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تقلصا كبيرا في ميزانية الدفاع الروسية، وبلغ احد ادنى مستوياتها في المشتريات العسكرية عام 1998 اذ لم تستطع شراء الا نحو ما معدله 10 مدرعات و 30 عربة ناقلة للجند في العام.
ذهب القسم الاكبر من طفرة الانفاقات العسكرية في السنوات الاخيرة الى القطاع البشري ضمن سعي روسيا الطموح لبناء جيش عصري محترف، مع بقاء ثغرة تحديث الاسلحة وعدم مواكبتها المتطلبات التسليحية. يذكر ان نسبة المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية لمدة سنة واحدة تشكل نحو نصف تعداد الجيش الروسي برمته، الذي لم تجرب امكانياته وقدراته بشكل كامل منذ افول مرحلة الاتحاد السوفياتي، لا سيما القوات البرية.
تشارف الخدمة الالزامية للمجندين على نهايتها العام الجاري وعودتهم لنمط الحياة المدنية، مما قد يقلص نوعية القدرات القتالية لما تبقى من الجيش الروسي المرابط على الحدود المشتركة مع اوكرانيا. ويعتقد المسؤولون الغربيون ان هذ الوضع قد يضطر الرئيس بوتين الى القيام بأحد أمرين: شن هجوم على اوكرانيا في غضون الاسابيع القليلة المقبلة او الانتظار فترة اضافية لرفع القدرة القتالية للمجندين الروس، وادراكه للتحديات الاضافية التي يمثلها نقص المعدات وتدني الجهوزية القتالية لقواته.
ويضيف هؤلاء ان الرئيس الروسي يواجه ضعف اداء الاقتصاد الروسي، على الرغم من توفر موارد الطاقة وجاهزية الاوروبيين لشراء الغاز الروسي، يرافقه العقوبات الاقتصادية الغربية وتراجع قيمة الروبل وهروب الارصدة المالية من روسيا والتصنيفات المالية المتدنية للاقتصاد الروسي التي تفاقم قدرته على الاستقراض الخارجي لتمويل عجلة التحديث. ويخلص هؤلاء بالقول ان الرئيس بوتين يتطلع الى الاستيلاء على اوكرانيا باقل كلفة ممكنة.
نجح الرئيس بوتين، الى حد معتبر، في خلق حالة شلل سياسي لدى السلطات الاوكرانية في كييف، وعوضا عن التدخل المباشر لجأ الى شن حملة مضادة عبر المعارضة الشعبية في الشرق الاوكراني المناهض لسلطة كييف، والذي من شأنه تحقيق عدد من الاهداف، على رأسها “ابطاء حركة تحول اوكرانيا الى جانب حلف الناتو، وتوفير الغطاء السياسي الضامن لشل حرية حركة قادة حلف الناتو .. عبر الاتكاء على جهوزية عدد قليل من القوات الخاصة عالية التدريب عوضا عن القوات النظامية الروسية.”
وبرزت نتائج الخطوة سريعا في تدني الكلفة الروسية وتوسيع هامش مناورتها السياسية والعسكرية ايضا وتوفير ارضية للمراجعة الشاملة استنادا على ما ستؤول اليه الاوضاع الميدانية. ومن شأن تلك الاستراتيجية اضعاف سيطرة السلطة المركزية في كييف واتاحة الفرصة لبروز سلطة مؤيدة لموسكو في الشطر الشرقي من اوكرانيا، وربما يؤدي الى انفصاله وتعميق الازمة لدى السلطة المركزية الموالية للغرب، فضلا عن اضعاف القدرة القتالية للقوات الاوكرانية المهددة بالانشقاق.
الاسلوب الراهن ينطوي ايضا على بعض المخاطر لروسيا لا سيما عند الاخذ بعين الاعتبار توتر العلاقات بينها وبين اوكرانيا في البعد التاريخي، مما قد يدفع سلطات كييف الى شن حرب وقائية ضد السكان الروس المقيمين على اراضيها بالاعتماد على القوات العسكرية تحت امرتها ودعم غربي متعدد الاوجه.
في هذا الصدد، اوضح معهد ستراتفور سالف الذكر للقادة الغربيين انه “من غير المرجح لجوء روسيا الى اجراء عملية عسكرية واسعة ابعد مما جرى في شبه جزيرة القرم؛” وبناء عليه يستبعد ايضا تدخل روسي مباشر لحماية الروس المقيمين في اوكرانيا. ومضى المعهد بتعزيز فرضيته ان السلطات الروسية اخذت علما بتجربة الاتحاد السوفياتي القاسية في افغانستان، وكذلك بالمأزق الاميركي في افغانستان والعراق ولن تقترف خطأ التدخل المباشر ضمن الظروف المرئية، وادراكها ايضا ان حلف الناتو يتوثب لاستدراجها لحرب تستنزف انجازاتها وقدراتها وتريح دول الحلف بنقل معركته الى الداخل الروسي.
في هذا السياق تجدر الاشارة الى دراسة اجراها مركز رازمكوف في مقره بكييف عام 2009، اوضح فيها ان المصانع الحربية في الشرق الاوكراني تنتج محركات طائرات تستخدمها روسيا لتشغيل ترسانتها من الطائرات المروحية العسكرية؛ اضافة لعدد من المعدات والمحركات التي تدخل في تشغيل روسيا لطائراتها المقاتلة وسفنها الحربية. وعلى سبيل المثال، فان شركة انطونوف للطيران ومقرها الرئيسي في كييف تصنع طائرات النقل الروسية من طراز ايه ان-70، والتي قد تصبح مصانعها عرضة لاعمال التخريب والانتقام من التوجهات السياسية للطرفين، وانخراط اوسع لحلف الناتو في اعمال المراقبة العسكرية على الشواطيء والحدود المشتركة لاوروبا مع روسيا، وما يتطلبه ذلك من زيادة دول الحلف انفاقاتها العسكرية لتحقيق توازن وتعادل في قوة الردع، واستدراج سباق تسلح بين الطرفين يضاعف مفاقمة الاوضاع الاقتصادية المتردية اصلا.
يذكر ان اسواق السلاح الفردي في الولايات المتحدة استوعبت اسلحة رشاشة روسية الصنع من طراز كلاشنيكوف ايه كي – 47، لعام 2013، اعلى من مشتريات الجيش الروسي وقوات الشرطة الروسية مجتمعين لذات السلاح. ومن الثابت ان الحكومة الاميركية ستلجأ لمقاطعة المنتجات الروسية لحرمانها من حصة السوق ومردودها المالي المعتبر.
المستقبل بعيون حلف الناتو
يراوح حلف الناتو في دائرة ردود الفعل في مسعاه للثبات على استراتيجية محددة للرد على التحركات الروسية، ولا تبدو عليه علامات الجهوزية للتضحية بالاستثمارات الاقتصادية والتقنية التي نسجتها مع روسيا لفترة طويلة استجابة للرغبة الاميركية بفرض اجراءات عقابية قاسية، اذ ان المصالح الاوروبية ستكون اول من يدفع الثمن، كما عبرت عنه الشركات الالمانية بامتعاض كبير، وهي التي تعي جيدا مدى اعتماد اقتصادياتها على توريدات الغاز الروسي لادامة دوران انتاجية المصانع. اما الولايات المتحدة فتعتمد بشكل رئيسي على التعاون مع روسيا وتقنيتها في شؤون الفضاء الخارجي لنقل الامدادات من والى محطة الفضاء العالمية. فضلا عن تعويل الولايات المتحدة على التعاون الروسي التام في توفير التسهيلات اللوجستية المطلوبة لانسحاب قواتها بسلام من افغانستان.
وعمدت الحكومة الاميركية على اظهار جانب التحدي لروسيا بارسالها اسراب من طائراتها المقاتلة، من طراز اف-15 و اف-16، للمرابطة في اجواء بولندا ودول البلطيق؛ ونشر قوات من مشاة البحرية والمظليين وطائرات النقل العملاقة، سي-130، في بولندا وقوات اقل عددا في رومانيا لطمأنة قيادات تلك الدول بجدية قراراتها؛ بدعم ومساهمة بريطانية وفرنسية ودانماركية، فضلا عن تحريك عدد من قطعها البحرية للمرابطة على شواطيء البحر الاسود. ويدرك الطرفين المتقابلين، حلف الناتو وروسيا، ان تلك القوات غير مؤهلة بحد ذاتها للدخول في مواجهة حقيقية، بل كعنصر يردع روسيا عن بسط نفوذها غرب حدودها الاقليمية.
نشرت الولايات المتحدة ايضا طائراتها من طراز الانذار المبكر المتطورة في عدد من دول اوروبا الشرقية لمراقبة حدودها، مما يوفر لها القدرة على تحريك سريع لقوات قتالية عند الحاجة؛ وابقت على موعد اجراء مناورات مشتركة بين قوات حلف الناتو والقوات الاوكرانية. الأهم ان الولايات المتحدة لم تتخلى او تتراجع عن استراتيجيتها بنشر نظام الدفاع الصاروخي على اراضي اوروبية بالقرب من الحدود الروسية، رغم رسائلها السابقة بالتطمين والعزوف عن ذلك؛ وفي ذات السياق قد تذهب ايضا لنشر منظومات مضادة للصواريخ الباليستية في اوروبا الشرقية ايضا.
الاستراتيجية الاميركية لمحاصرة روسيا استدعت “ترميم” علاقات دول حلف الناتو مع تركيا التي تمتلك اكبر جيش من حيث العدد بين دول الحلف، واستعادة وظيفتها ككيان ينغص الحياة على روسيا نيابة عن الولايات المتحدة يعززه استضافتها عدد من القواعد الاميركية العسكرية والجوية والبحرية كمنصة انطلاق ضد روسيا.
كما تستدعي الاستراتيجية الاميركية ابتعاد اعتماد اوروبا على مصادر الطاقة الروسية، والذي سيستغرق وقتا طويلا، في افضل التوقعات، والتأهب لتصدير موارد الطاقة المكتشفة حديثا في القارة الاميركية الى اوروبا، واستمرار تحكمها بمصادر وطرق تسويق الطاقة المدفونة في عمق الارض العربية.
الشق العسكري في الاستراتيجية الاميركية ما فتأ يطالب الحلفاء بزيادة حصصهم للانفاق على الشؤون الدفاعية تحت ذريعة “مكافحة ارهاب القاعدة ومشتقاتها،” والاستثمار في تحديث المعدات والاسلحة لتخفيف اعباء الدفاع عن الميزانية والقوات الاميركية واضطلاع الاوروبيين بمهمة حماية أمنهم. وسارعت بولندا الى استثمار الهواجس الاوروبية والاميركية من روسيا بتجديد طلبها لمرابطة قوة عسكرية من قوات الناتو قوامها كتيبتين قتاليتين على اراضيها بشكل دائم.
والتقطت الولايات المتحدة فرصة تفاقم العلاقات مع روسيا لاستئناف العمل بنشر نظم مضادة للصواريخ الباليستية في اوروبا، دشنتها بالاعلان عن نشر بطاريات صواريخ اعتراضية من طراز ايجيس في بولندا تستكمل عام 2018، وربما تضغط الاحداث الجارية بتسريع الانتشار الى موعد اقرب من المقرر، سيما وان رومانيا ستستقبل بطارية اعتراض صاروخية عام 2015؛ والهدف المعلن روسيا وايران.
تتميز بولندا بامتلاكها احد اكبر الجيوش العسكرية عددا بين دول الحلف الاوروبية، قوامها 900 عربة مدرعة وما ينوف عن 100 طائرة مقاتلة، معظمها سوفياتية الصنع، وتمضي لتحديث ترسانتها بمدرعات ليوبارد الالمانية؛ وخصصت جزءا اكبر من موازنتها السنوية للشؤون العسكرية، فضلا عن مشاركة قواتها ضمن القوات الاجنبية في افغانستان ومناطق اخرى كما تقتضيه المصلحة الاميركية، ومشاركة قواتها في المناورات العسكرية المشتركة مع اوكرانيا. ومن المتوقع ان تلعب بولندا حجر الزاوية في استراتيجية حلف الناتو الدفاعية في دول اوروبا الشرقية.
الخلاصة
ينبغي لفت الانتباه الى تميز الازمة الاوكرانية الراهنة عن اجواء الحرب الباردة، التي يتوق اليها اقطاب معتبرة من صناع القرار السياسي الاميركي. اولها ان حلف الناتو لا يواجه “امبراطورية سوفياتية” مترامية الاطراف، بل روسيا “تغادر مواطن الضعف السابقة” في مواجهة خصم اكبر عددا وعتادا يضم معظم حلفائها السابقين في حلف وارسو المنحل، ويتفوق عليها اقتصاديا وعسكريا. غاب عن الصورة النموذج السابق لخشية اوروبا من “حشد هائل من المدرعات السوفياتية تجتاح اواسط اوروبا.” واوضح الباحث في مكتب الدراسات العسكرية الاجنبية، التابع للقوات البرية الاميركية، يعقوب كيب، ان القوة السوفياتية كانت “ساحقة لديها القدرة على مراكمة نسق عسكري فوق آخر. وهذا ما كنا نخشاه في حلف الناتو: اي قوات عسكرية كبيرة مدربة ترابط على حدود المانيا ذات قدرة على تنظيم وحشد مجتمع بأكمله للانخراط في حرب ذات كثافة عالية ضد اهداف صناعية.”
واضاف كيب ان روسيا اليوم “تفتقد قدرة الحشد العالية .. مما يعني انه في زمن نشوب الازمات العسكرية سيجد الكرملين نفسه في مواجهة خيارات غير جذابة.”
الثابت في المعادلة الراهنة ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عازم على تحديث الآلة العسكرية الروسية كوسيلة لبسط النفوذ على المستوى العالمي. وينقل عن الخبراء الغربيين قولهم ان بوتين يغامر بالمراهنة على قوات عسكرية غير مجربة خاصة وان اي فشل تواجهه سيترجم كارثة سياسية رئيسة.
ليس سرا ان حلف الناتو يجهد في ادراك حجم مواطن الضعف الروسي واستغلالها لصالحه، سيما لتقلبات الاوضاع الاقتصادية رغم فائض مخزون موارد الطاقة. من جانبه يدفع الرئيس بوتين حلف الناتو الى قراءة مخطئة لنواياه وحصرها بمعادلات الحرب الباردة بين خصمين متقاربين في القوة.
اسلوب ادارة الرئيس بوتين الحاسم للازمة مع اوكرانيا عزز موقعه وشعبيته في الداخل الروسي، وكذلك في الاوساط العالمية التواقة للخروج من سيطرة احادية للولايات المتحدة على مقدرات العالم. ويدرك بدقة حقيقة مواطن القوة لحلف الناتو، فرادى ومجتمعين، ويسعى بدوره لتوسيع شقة التباينات داخل صفوفه بالتقرب من المانيا التي لا زالت غاضبة من جهود التجسس الاميركية عليها وعلى مسؤوليها، كما اوضح ادوارد سنودن، وتبديد زخم الاندفاع الاميركي ولجمه.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية