مستنقع أوكرانيا وتراجع الإمبراطورية الأمريكية (1/2)
عند مناقشة أزمة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، قد يكون من المفيد للأمريكيين، بما في ذلك طبقتهم السياسية والمحللون في مراكز بحوثهم و وجوههم الإعلامية، أن يتذكروا واقعتين تاريخيتين لافتتين حدثتا في وقت مبكر من تشكّل الإمبراطورية الأمريكية.
ترجمة: نور طه
الواقعة الأولى حدثت في عام 1903، بعد انتهاء الحرب الأمريكية - الإسبانية، حين أحكمت أمريكا سيطرتها على الجزء الجنوبي من خليج غوانتانامو، في عهد الرئيس ثيودور روزفلت، عن طريق «المعاهدة الكوبية - الأمريكية» والتي اعترفت بسيادة كوبا على هذا الأساس. عندما لم يكن هناك من فيديل كاسترو في هافانا.
أما الواقعة الثانية، فقد جرت في عام 1918، بعد عام واحد من اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، عندما أوفد الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، 5000 جندي أمريكي إلى منطقة «أرخانجيلسك» في شمال روسيا، للمشاركة في تدخل الحلفاء في الحرب الأهلية الروسية، والتي رفعت الستار عن الحرب الباردة الأولى.
من الجدير بالذكر، أن المواجهة الحاصلة في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم تجري في وقت بدأت معه «شمس» الإمبراطورية الأمريكية بالغياب، مقابل بزوغ فجر نظام دولي جديد تؤسسه قوى كبرى متعددة.
السر الروماني لم يعد نافعاً!
على الرغم من أن الإمبراطوريات تملك طرقاً للصعود والازدهار، إلا أن لها طرقاً للسقوط والتراجع أيضاً. وقد كانت هذه المسألة مثاراً لأكثر التساؤلات التي طرحها إدوارد جيبون* أهمية وصعوبة، بخصوص انحطاط الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. ويرتدي هذا التساؤل اليوم أهمية خاصة، فقد خلُصَ جيبون إلى أنه، وفي الوقت الذي تم فيه اكتشاف أسباب انحطاط الإمبراطورية الرومانية وانهيارها، بقيت الأسباب الداخلية والخارجية خلف صمودها لفترة طويلة كثيرة ومعقدة. إلا أن الجانب الوحيد الذي يستحق اهتماماً خاصاً، هو اعتمادها على العنف والحرب، كاستراتيجية لإبطاء وتأخير ما هو محتوم (الانهيار).
لم تكتف الإمبراطوريات الأوروبية بالصراع فيما بينها في العصور الحديثة، بل قامت بمواجهة الشعوب الحانقة، عندما تجرأت على مقاومتها والانتفاض في وجه أسيادها المستعمرين الإمبرياليين في الفترة التي تلت عام 1945، في كلٍ من الهند و كينيا والهند الصينية والجزائر والسويس والكونغو، وما تزال هذه المواجهة قائمةً إلى يومنا الحالي. هذا وقد بادرت الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطوريات الأوروبية المتقهقرة إلى التعاضد فيما بينها إثر ذلك، وأخذت تبذل الجهود لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضي مستعمراتها السابقة في الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا و آسيا.
لا أحد ينكر أن الإمبراطورية الأمريكية هي إمبراطورية متميزة وغير نمطية، وأنها نجحت في الانتشار بسرعة في جميع أنحاء العالم أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، دون أن تقيم مستعمرات استيطانية تقليدية. ومردّ نجاحها هذا يعود إلى تجنبها للخسائر البشرية والمادية والاقتصادية الهائلة، التي طالت جميع الأطراف المتحاربة الرئيسية (الحلفاء) في الحرب العالمية الثانية.
أمريكا ليست استثناءً!
أما الآن، فقد تجاوزت الإمبراطورية الأمريكية ذروة ازدهارها، واهترأت روابطها الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمدنية والثقافية بشكل كبير. وفي الوقت ذاته ، بدأت دول البريكس وإيران بالمطالبة بموقعٍ لها بين القوى العالمية.
بدأ ما تدعوه أمريكا بـ «عصرها الرائع»، المتمثل بإنزال قواتها على شواطئ الدول الأخرى وتغيير أنظمتها، بالاقتراب من نهايته. حتى في مجال الهيمنة التي فرضها مبدأ مونرو*، نجد أن هناك فرقاً شاسعاً بين التدخلات سابقاً وحالياً. فقد قامت أمريكا في أيامها «الخوالي»، غير البعيدة، بالتدخل بشكلٍ سافر في كل من غواتيمالا 1954وكوبا 1962 وجمهورية الدومينيكان 1965 وتشيلي 1973 ونيكاراغوا 1980 وغرينادا 1983 وبوليفيا 1986 وبنما 1989 وهاييتي 2004. ولم تقم الولايات المتحدة في أيٍ من هذه الحالات بتمكين أو تقديم أنظمة أكثر ديمقراطية وتقدماً اجتماعياً.
ويمكننا القول إن الخطوات التي تتخذها واشنطن اليوم باتت أكثر حذراً، ليس لأنها استنفدت نفسها في كل المجالات فحسب، بل أيضاً بسبب ظهور أنظمة وحكومات تحمل توجهات يسارية في خمس دول أمريكية لاتينية في السنوات القليلة الماضية. ومن المرجح أن تصبح هذه الدول أقل اعتماداً من الناحية الاقتصادية والدبلوماسية على الولايات المتحدة وأكثر تخوفاً منها.
مما لا شك فيه أن اللهجة والمفردات التي يستخدمها المحافظون الجدد في التهليل لما يُسمى بـ «أمريكا العظيمة والاستثنائية والفريدة من نوعها تاريخياً والتي لا يمكن الاستغناء عنها»، هي أكثر قوة وحدّة من تلك التي يستخدمها الليبراليون الأمريكيون، الذين يخافون حتى من ظلهم في أوقات الصراع.
في واقع الأمر، فإن موقف وينستون تشرشل وخطابه يشكلان رمزاً يستلهمه المحافظون ورفاقهم في زمن التراجع الإمبريالي الغربي الذي ارتبط مع حالة الصعود والهبوط في الاتحاد السوفياتي.
في عهد كل من نيكيتا خروتشوف وميخائيل غورباتشوف، اندفع حلف شمال الأطلسي «الناتو» بلا هوادة إلى حدود روسيا. وما لبث هذا الأمر أن أصبح أكثر وضوحاً في الفترة الممتدة بين عامي 1989-1991 عندما قام غورباتشوف بـ «تحرير الأمم الأسيرة»، ووقع على إعادة توحيد ألمانيا.
قامت جميع دول أوروبا الشرقية المحررة - الأعضاء في حلف وارسو سابقاً - الواقعة على حدود روسياــ إضافة إلى ثلاث من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة بالانضمام إلى حلف الناتو بين عامي 1999 - 2009. لتشكل في نهاية المطاف ثلث الأعضاء الثمانية والعشرين في هذا التحالف العسكري الشمال أطلسي. ومن الجدير بالذكر هنا، أن حلف الناتو كان طوال هذا الوقت يضع جورجيا وأوكرانيا نصب عينيه.
ماكين يستعرض: أوباما عاجز
قامت وزارة الخارجية الأمريكية، في الثاني من آذار 2014، بإصدار «بيان حول الوضع في أوكرانيا من مجلس شمال الأطلسي» وأعلنت فيه أن «أوكرانيا هي شريك مهم لحلف شمال الأطلسي وعضو مؤسس في «الشراكة من أجل السلام*»، وسيواصل الحلفاء دعمهم لسيادة أوكرانيا واستقلالها وسلامة أراضيها، ولحق الشعب الأوكراني في تحديد مستقبله دون تدخل خارجي». وتلا هذا البيان جملة تحركات أمريكية في محيط الأراضي الروسية شملت توجه مدمرة صواريخ أمريكية عبر مضيق البوسفور في البحر الأسود لإجراء تدريبات بحرية مشتركة مع القوات الرومانية و البلغارية، وإرسال طائرات إضافية من طراز «إف 15» لتعزيز الدوريات الجوية للناتو فوق دول البلطيق كاستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إضافة لإنزال قوات من المشاة في بولندا.
في السياق ذاته ، قال السيناتور الجمهوري جون ماكين إن السياسة الخارجية العاجزة التي ينتهجها منافسه السابق - أوباما - هي من شجعت بوتين، عملياً، للقيام بخطوته العدوانية على حد تعبيره. ملمحاً، بشكل ضمني، إلى أن الرئيس أوباما يتمتع بشخصية مهادنة. ثم ما لبث السيناتور، متعدد الأدوار، أن توجه إلى أوكرانيا ليؤكد أن هناك جانباً أمريكياً آخراً، يمتلك العزم والكفاءة والقوة في مقابل الجانب الذي يضم الرئيس «العاجز» والفريق القائم على سياسته الخارجية.
هوامش :
- إدوارد جيبون* : (1794-1737) مؤرخ إنجليزي وصاحب كتاب «تاريخ أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي يعدّ من أهم وأعظم المراجع في موضوعه.
- مبدأ مونرو* : هو عبارة عن بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالة سلّمها للكونجرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823م. حيث نادى المبدأ بضمان استقلال كل دول النصف الغربي من الكرة الأرضية ضد التدخل الأوروبي.
- الشراكة من أجل السلام* : منظمة تابعة لحلف الناتو تهدف إلى خلق الثقة بين الحلف ودول أخرى في أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، أطلقت رسمياً عام 1994.
*عن موقع : counterpunch.org «بتصرف»
معلومات إضافية
- ترجمة:
- نور طه