تأثير «المنظومة»: الإعلام الغربي والأزمة السورية مثالاً
يبدو الأمر للوهلة الأولى مثالاً لصحافة احترافيّة على أعلى المستويات. ينطلق المراسل الألماني إلى مدينة حلب السورية التي تشهد مواجهات بين طرفي الصراع مسجلاً محطات الرحلة بالصوت والصورة.
بعد ثلاثين ثانية من بدء التقرير يتحدث المراسل إلى الكاميرا وهو يقوم بارتداء سترة عادية قائلاً: «من الأفضل ارتداء سترة إضافية عادية فوق السترة الواقية من الرصاص لتغطية شارة الصحافة المطبوعة على السترة الواقية لأن جنود الطرف الآخر يستمتعون كما قيل لنا بإطلاق النار على الصحافيين».
وهكذا يتضح ومن بداية التقرير أن المراسل قد «انحاز» سياسياً وصحافياً وأخلاقياً إلى طرف بذاته، وذلك عندما نقل «حقيقة» لا يمكن التحقّق منها وشعوراً داخلياً لدى الطرف الآخر لا يمكن قياسه هو «التمتع بإطلاق النار على الصحافيين». يتعلّق الأمر هنا بخطأ مهني شائع: خطأ لأنه يتناقض مع ما تدرّسه أكاديميات الإعلام الغربية عن ضرورة عدم انحياز الصحافي المحترف إلى أي قضية حتى لو كانت عادلة، وشائع لأنه طبع التعامل الإعلامي الغربي مع الأزمة السورية بشكل كامل تقريباً لسنتين على الأقل (تغيّرت الصورة جزئياً في العام الثالث للأزمة). يتابع المراسل تقريره مقترباً من ارتكاب الخطأ المهني الثاني حين يقول: «سيرافق المتمردون المراسلَ اليوم إلى جبهات القتال»، وينسى أن «المتمردين» لا يرافقون المراسل إلى جبهات القتال فحسب، بل هم يرافقونه مُذ دخل سوريا إلى أن غادرها، وهو بالتالي واقع تحت تأثير هؤلاء الذين يدين لهم على الأقل بالحماية، وينطبق عليه وصف «صحافي إمبيديد» أو صحافي مرافق لطرف (أو مُحتَضن منه) embedded journalist، علماً أن صحافة الـ embedded وبعيداً عن الاعتراضات المبدئية عليها، باتت تشكل ضرورة في إعلام اليوم مع انتشار الحروب والحروب الأهلية المعقّدة، وعلماً أيضاً أن وصف «إمبيديد» ينطبق في الحالة السورية أيضاً على الصحافي الآخر المرافق لقوات الجيش العربي السوري. ولكن لا بدّ لمن يمارس الصحافة وسط شروط الـ embedded أن يوضح هذه الحقيقة. لم يقم المراسل الغربي المحسوب على مدرسة ما يُسمّى بالإعلام الحِرَفي المتوازن واللامنتمي إلى أطراف الصراع بإبلاغ المتلقّي بوضعه كـ embedded journalist، ليرتكب بعدها الخطأ الثالث المتمثّل في عدم نسب المعلومة إلى مصدرها حين يقول: «الضحايا هم بالدرجة الأولى مدنيون سقطوا ضحايا لغارات طائرات الجيش السوري أو لقذائف دباباته، أو لأنهم وقعوا في أسر القوات النظامية». وتغيب اللازمة اللغوية والصحافية المهمة وفحواها كلمات أربع: «كما تقول مصادر المتمردين». والهدف من هذه الإضافة ليس التشكيك بصحة المعلومة، بل لتوثيق المصدر حرصاً على الدقّة الصحفية وعلى تاريخ قد يُكتب يوماً اعتماداً على أرشيف الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية.
من السهل اتهام الصحافي الغربي أعلاه بأنه جزء من حرب إعلامية «كونيّة». ولكن - وبعيداً عن الاتهامات والتكهّنات - كيف يمكن تفسير وجود أخطاء مهنية فادحة في تقرير لصحافي محترف يعمل في وسيلة إعلامية مرموقة؟ متى تكثر التجاوزات الصحافية؟ وفي أي المواضع والمواضيع؟ وما هي «الأجواء» السياسية وغير السياسية التي تُسهّل حدوث «الكبوات» الصحافية؟ ستركّز السطور التالية في محاولة الإجابة على تطبيقات نظرية «النظام» أو «المنظومة» Systemtheorie، والتي تقوم على أن كل شيء مكوّن من منظومات وأن التحليل يجب أن يتناول المنظومات لا الأجزاء فحسب. لا مكانَ وفق هذه النظرية لأبحاثٍ تتناول الصحافي أو المتلقي أو الصحافة بشكل منفصل - أي أبحاث تتناول الأرض من دون المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية من دون مجرة درب التبانة، و درب التبانة من دون الكون المحيط بها - تصبح الصحافة وفق الـ Systemtheorie بمرسليها ومتلقيها وقنوات تواصلها، منظومةًً مكونةً من منظومات أصغر قائمة بذاتها كغرفة الأخبار مثلاً من جهة، ولكنها لا تنفصل عمّا حولها من منظومات أخرى معقّدة كمنظومة الاقتصاد والسياسة والثقافة والإيديولوجيا - والدين - إضافة إلى المنظومة اللغوية والتقنية وغيرها من جهة أخرى، لتُكوّنَ مع بعضها بعضاً منظومة أكبر، هي بدورها جزء من منظومات أوسع. بعيداً إذن عن شخصية الصحافي الفرد وإرادته وبعيداً عن فهم الصحافيين غير الدقيق لدورهم أحياناً وبعيداً عن الضغوط التي قد تمارسها رئاسة التحرير أو الجمهور على الصحافي، وكلّها مصادر محتملة لأسباب وقوع الأخطاء، ثمة مصدر آخر خفيّ للأخطاء لا يمكن تحديده من دون مراعاة «النظام» أو «المنظومة» السائدة في لحظة ما. ويتّضح الأمر بشكل أكبر بالعودة إلى المثال السابق للمراسل الميداني الألماني في سوريا مع تغيير بعض الإحداثيات في «النظام» المحيط به. لنتخيّل لو أنّ المراسل نفسه قام وبالطريقة نفسها بمرافقة مجموعة من «مجاهدي طالبان» في شعاب أفغانستان بدلاً من المسلّحين السوريين في حلب، ونقل أفكارهم وكلامهم ومشاعرهم. أمر صعب التخيّل بالمُطلق، ولكن لماذا؟ ما الفرق بين أفغانستان وسوريا؟ ألا يتعلّق الأمر بصحافة محترفة قادر على إبقاء مسافة مهنية بينها وبين القضايا التي تتناولها، ولديها معاييرها بغض النظر عن مكان ممارسة الفعل الصحافي وانتماءات الممارسين؟ الجواب هو «نعم» على مستوى النظريات المسطحة، وهو «لا» إن اعتمدنا نظرية المنظومة. فالصحافي وفق الأخيرة وبغضّ النظر عن مهنيته جزءٌ من منظومة وليس مخلوقاً فضائياً هبط على الأرض لتوّه، وهو وإن كان مُنتِجاً للمعلومة والرأي والشعور فإنه أيضاً مُتلقٍ لكل هذا. وكي يقوم صحافي ألماني بالتقدم باقتراح «مرافقة مجموعة من طالبان» إلى هيئة التحرير التابع لها، يجب أن يكون قد قضى الوقت بين عامي 2000 و2014 في سبات عميق، فلم يسمع بهجمات سبتمبر/ أيلول في نيويورك وواشنطن ولم يسمع بـ«الحرب على الإرهاب» التي أوصلت جنود بلاده إلى أفغانستان. أي يجب عليه الخروج من أجواء وأُطر أو منظومات سياسية وإيديولوجية وعسكرية وتاريخية ينتمي إليها وتجعل من طالبان «العدو»، ومن دخول أفغانستان «نشراً للديمقراطية».
تبدو الحالتان الأفغانية والسورية متباعدتين عن بعضهما بعضاً، لكن ليس بمقاييس نظرية «المنظومة». فالمنظومة القائمة في الغرب سياسياً وإيديولوجياً - ومن ثمّ إعلامياً - هي من وضع التعريفات وصنع التوجّهات في وقت مبكّر جداً، أفغانياً وسورياً، مع الاعتراف أن الإعلام ليس كتلة جامدة متأثرةً فحسب وإنما أيضاً منظومة تؤثر على المنظومات الأخرى بقدر ما تتأثر بها. قال المستشار الألماني غيرهارد شرودر في خريف 2001 إنّ الهجمات على نيويورك وواشنطن هي اعتداءٌ على «الحضارة الإنسانية»، وقال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في صيف 2011 إنه يتوجب «على الأسد أن يتنحى»، متبنياً مع باقي الساسة الغربيين مقولة «حاكم يقتل شعبه». وخلُصت المنظومة الثقافية الغربية بين هذا وذاك إلى أن دول جنوب وشرق المتوسط تشهد «ربيعاً عربياً» يسعى إلى تحقيق الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، ليتلقّف الإعلام بعدها كل هذا ويعيد تدويره. وليس لصحة المقولات السابقة أو مجانبتها للصواب أي أهمية في إطار نظرية المنظومة، فالأخيرة تنتمي إلى المستوى التحليلي «النقدي» الذي لا يعترف بوجود واقع أو - حقيقة - أصلاً، بقدر ما يتناول صورة هذا الواقع المُفترض وارتداداته داخل وعي المراقبين له وتأثيره تالياً على سلوكهم المباشر وغير المباشر في لحظة ما. لا يمكن للمراسل الغربي إذن أن يسلك مسلك مرافقة مجموعة من طالبان، كما لا يمكن له - وفق المنظومات التي تشكّل الأُطر المحيطة به والمحدِّدة لعمله - مرافقةُ مجموعة من «جنودنا البواسل»، كما تسمّي منظومةٌ سياسية وإيديولوجية مقابلة لتلك الغربية جنودَ الجيش العربي السوري. فهذا الجيش هو وفق المنظومة السائدة في الغرب «جيش الدكتاتور الأسد»، أمّا من يحارب هذا الجيش فهم «الثوّار». لكن، ولنفترض نظرياً أن صحافياً غربياً تغلّب على المنظومات القائمة ونجح في إقناع رئاسة تحرير وسيلته الإعلامية بفكرة مرافقة وحدة عسكرية من الجيش العربي السوري في العمليات القتالية الدائرة، ولنفترض جدلاً أن قيادة الجيش العربي السوري التي لا تعرف منظومته، ووافقت على مثل هذه «المرافقة» الغربية وأتاحت الأمر للمراسل المذكور، وأن الأخير عاد من رحلته سالماً ومعه تقرير صحافي متكامل (يمكن هنا لأهداف تحقيق التوازن السياسي القيام وبشكل مواز بتخيّل حالة مراسل من التلفزيون السوري الرسمي يقوم بمرافقة مجموعة من مقاتلي ما يُسمّى بالجيش الحر). كيف ستكون عند ذلك السويّة المهنية لتقرير المراسل الغربي؟ سيكون التقرير غالباً قمةً في الالتزام بقواعد الصحافة الحرفية من فصل الرأي عن المعلومة إلى نسب كلّ معلومة إلى مصدرها مع التوضيح الكامل لظروف العمل الصحافي المتمثلة في مرافقة وحدة عسكرية للجيش العربي السوري، مع التمتع بحمايتها من جهة والتزام تعليماتها من جهة أخرى. ومن غير المرجّح أن يشقّ المراسل في تقريره قلبَ مقاتل لا يراه من الطرف الآخر مفترضاً أنه «يتمتّع بإطلاق النار على الصحافيين»، أو أن يتبنى حديث الجنود السوريين عن «الضحايا المدنيين للعصابات الإرهابية» من قتلى وجرحى ومشردين.
لابدّ من القول ختاماً - وبعيداً عن التصنيف السياسي لكل ما ذُكر أعلاه - وفي خِضمّ الإجابة على السؤال الأصلي للمقال عن مصادر الأخطاء الصحافية ولحظات السقوط «المهني» لزملاء الحرفة، إن الصحافي يميل إلى توخّي الدقة والحذر ويحاول التزام أعلى معايير الصحافة المحترفة، كلما شعر بوطأة السباحة «ضدّ التيار» ومصاعبها وبالمخاطر والاتهامات وردود الفعل السلبية التي قد يثيرها منتجه الصحافي. أما الصحافي الذي يشعر أنه يسبح في «مياه صديقة» ثقافياً وسياسياً وإيديولوجياً (كالمراسل الألماني في بداية المقال) فإنه سيكون بلا وعي منه أكثر عرضةً لارتكاب التجاوزات الصحافية والأخطاء المهنية مادام منتجه مقبولاً سلفاً من منظومة التحرير في مستوى أول إلى منظومة الثقافة والمجتمع في مستوى ثاني إلى منظومة السياسة والإيديولوجيا وما بعد هذه وتلك في المستويات اللاحقة. كما لابدّ من الإشارة - بعيداً عن سلوك الصحافي ونوعية المنتج الصحافي - إلى نتيجة أخرى لا تقلّ أهمية: لم يعد التأثير على الصحافة في عالم اليوم يتم بأساليب سهلة وبسيطةً كما كان الحال عليه في القرن الماضي، بل بات يتمّ في مواضعَ ومنظوماتٍ أخرى تبدو بعيدة للوهلة الأولى قبل أن يصل هذا التأثير بشكل سلس وآلي إلى إعلامٍ يعتقد أنه حُرٌّ مستقل، بينما هو في حقيقة الأمر - وما دمنا بصدد الحديث عن الأزمة السورية - ينطبق عليه وصف الشوام لبعض أنواع الدرّاق في ديارهم من ذاك الذي لفرط نضجه تكاد قشرته تسقط عنه من تلقاء ذاتها: «لا تشلحو ... بيشلح لحالو».
المصدر: رأي