بمناسبة خروج ألمانيا: اللهم شماتة؟!
تحولت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها مساء أمس إلى مهرجان للشماتة بالألمان وبمشجعيهم. وعلى الضفة المقابلة، ضفة مشجعي المنتخب الألماني، كان السائد هو ما يسود في حالات مماثلة، أي تواري مشجعي المنتخب الخاسر عن الأنظار، وإنْ لم يخل الأمر من بعض الأصوات المعترضة على الشماتة.
ما لا جدال فيه هو أنّ الحالة بمجملها كانت مزودة بحمولة سياسية ثقافية كبيرة، وليس هذا غريباً في عالم مشحون بالصراعات السياسية الكبرى، وليس غريباً أبداً عن المنطقة العربية التي تعيش أساساً تحت وطأة تلك الصراعات.
بدأت عملية الاستفزاز مع الدخول الألماني الأول في هذه البطولة بحركة تكميم الأفواه، في إشارة لدعم «قضية المثلية»!، ومن ثم مع حضور وزيرة الداخلية الألمانية لمباراة ألمانيا مع اليابان واضعة على ذراعها إشارة العلم الملون للمثلية. وبدا هذا السلوك استفزازياً بالنسبة للكثيرين، خاصةً أنّ حالة «التضامن» و«الاحتجاج» التي اختار المنتخب الألماني أن يعبّر عنها، كانت حالة سياسية بامتياز؛ فالمنتخب الألماني لم يسبق له أن «تعاطف» رمزياً مع أية قضية عادلة، خاصة القضية الفلسطينية... (وهذا ليس مستغرباً؛ فقوانين ألمانيا -وهذا ما لا يعرفه كثيرون- تعتبر أي انتقاد لـ"إسرائيل" معاداةً للسامية!)، أكثر من ذلك فقد طفت إلى السطح ممارسات عنصرية سابقة وراهنة للمنتخب الألماني بينها سلوكه اتجاه لاعبه المعتزل مسعود أوزيل، وبينها التصريحات العنصرية للاعب السابق ساندرو فاغنر، وغيرها من الحوادث المعروفة في الدوري الألماني وفي دوري الأندية الأوروبية.
المعارضة وكرة القدم
الحديث عن العلاقة بين السياسة والرياضة على العموم وكرة القدم على الخصوص حديث طويل وشيّق، ولكن ربما أحد أكثر جوانبه إثارة للانتباه هي العلاقة بين التعبير السياسي الذي يقدمه الرياضي وبين موقف حكومته. فقد شكّلت روابط التشجيع وكذلك المنتخبات نفسها، أحد أماكن التنفيس عن المواقف الشعبية المعارضة لمواقف الحكومات. وهذا على العكس تماماً من مجمل الاحتجاجات التي بتنا نشهدها مؤخراً من المنتخبات الأوروبية والغربية على العموم، التي باتت أداة دعائية للحكومات، وبشكلٍ فاضح، كما هي حالة الفريق الألماني الذي بدا مجرد بوقٍ للسياسات الألمانية اتجاه منطقتنا ككل، والتي لا تنفصل عن سياسات المركز الغربي الأمريكي.
في حالة معاكسة تماماً، رأينا عبر السنوات الماضية مواقف لروابط المشجعين وللمنتخبات واللاعبين، أقرب إلى النفس الشعبي العام في بلدانها، من ذلك الموقف المعروف لأبو تريكة المصري المخالف للاتجاه التطبيعي لحكومة بلاده، وكذلك موقف المنتخب المغربي ومشجعيه الداعم للقضية الفلسطينية على العكس من موقف السلطات المغربية المنبطح اتجاه الكيان، وهذا الموقف المناصر للقضية الفلسطينية عبّر عن نفسه في هتافات الجماهير المغربية وفي الحضور الكثيف للعلم الفلسطيني، بما في ذلك على أرض الملعب حيث حمله لاعبو المنتخب المغربي في احتفالهم بالفوز والتأهل للدور الثاني...
التعالي الأخلاقي!
ربما يمكن تفسير حالة الشماتة الواسعة التي عاينها الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي يوم أمس، ولو جزئياً، بأنّ الكيل قد فاض بالغالبية من الناس، من التعالي الأخلاقي للأوروبيين على العموم، وللألمان ضمناً؛ التعالي والتكبر الذي يصورون به أنفسهم حملة قيم ينبغي على العالم أن يتبعها، ويصورون الآخرين بأنهم متخلفون وعديمو حضارة وثقافة. وذلك في الوقت نفسه الذي يستمرون فيه بالخضوع لثقافة الكاوبوي الأمريكي، بما في ذلك في السياسات التي تدمر بلادهم ومعيشتهم حرفياً، وفي الوقت نفسه الذي يستمرون فيه بالنظر شزراً إلى كل القضايا العادلة لشعوب منطقتنا وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لا يغيب عن البال في هذا السياق توصيف جوزيف بوريل للعالم بأنه عبارة عن حديقة هي أوروبا والغرب على العموم، وغابة هي بقية العالم؛ التوصيف العنصري الذي يستحضر أسوأ الأفكار الاستعمارية العنصرية ابتداءً من تنظيرات جون ستيوارت مل، الذي برر الاستعمار الأوروبي وجرائمه بأنّه وسيلة لجلب الأمم البربرية المتخلفة إلى الحضارة. وهذا ما يكرره السياسيون الأوروبيون والغربيون اليوم، بهذه الطريقة أو تلك.
الحمولة السياسية العالية التي بدأ المنتخب الألماني حضوره عبرها في كأس العالم 2022، هي بالذات المحرض الأساسي على تحويل ألعابه إلى ساحة صراع سياسي/ثقافي، ولا يمكن لوم عموم الناس على عدم تحييد الرياضة عن السياسية ما دام «الرياضيون» ومن خلفهم حكوماتهم، قد دخلت أرض الملعب رافعة راية سياسية...