كيف يرى الأمريكي انقسامه؟
تتأرجح الولايات المتحدة الأمريكية مع فقدانها لوزنها الدولي وهيمنتها السابقة بالتدريج تحت وطأة التوازنات الدولية الجديدة. ويزيد من وطأة هذا التأرجح تلك الخلافات داخل البيت الأمريكي التي تتحوّل إلى انقسام داخل الإدارة الأميركية حول معظم القضايا الأساسية، ويظهر إلى السطح تراشق الاتهامات في كل الاتجاهات. وقد ظهر هذا الانقسام إلى السطح منذ تولي «ترامب» رئاسة الولايات المتحدة، لكن عمقه لم يكن ليبدو إلا بعد تولي «بايدن» الرئاسة، لتصبح المعارك كما لم نعهدها سابقاً في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
فمن التعثر في السيطرة على جائحة كورونا، وحتى الفشل في وضع سياسة للحد من التدهور الاقتصادي إلى التأرجح في السياسة الخارجية الولايات المتحدة، وأبرز مظاهرها العلاقة مع المنظمات الدولية ودور الولايات المتحدة في النظام الدولي الذي يلفظ أنفاسه.
إنّ ما نراه من مظاهر الأزمة في الولايات المتحدة ليس إلا واحداً من تمظهرات أزمة التراجع الرأسمالي العام في أهم مراكز الرأسمالية اليوم، فليست الخلافات بين الولايات أو بين الديمقراطيين والجمهوريين إلا انعكاساً للأزمة الكبرى التي تعاني منها الولايات المتحدة ككل، أزمة كان من أهم أسبابها الدولار بحد ذاته الذي هو لب النظام المالي العالمي السائد، والذي عمّق عمليات التبادل اللامتكافئ بين المراكز الإمبريالية (وبالتحديد المركز الإمبريالي الأمريكي) وباقي دول العالم، وأدخلها في حالةٍ من الاسترخاء والترهل (فإذا كانت الأرباح تتدفق إلى خزائنك من مختلف دول العالم دون أن تبذل أيّ جهدٍ يذكر في تصنيعها، فلم الاهتمام بالصناعة والتكنولوجيا وتطوير القدرات العسكرية وإلخ؟).... هذا الترهل هو النتاج الطبيعي لعالم القطب الأوحد الأمريكي، وهو المصير الطبيعي المعتاد للإمبراطوريات الكبرى التي دائماً ما انهارت في تلك اللحظة بالذات التي أمَّنت فيها على وصول تمدّدها إلى أقصى مدىً له، وبدأت بالتنعُّم فوق عرش النهب العالمي...
الأحادية القطبية، وإمبراطورية الإمبراطوريات، في عصرنا الراهن، ولأنها حوّلت العالم بأسره بشكلٍ عميقٍ، ضمن التحولات المتتابعة داخل المنظومة الرأسمالية، فإنها حين تنهار، سيتغير وجه الكوكب إلى الأبد، بما في ذلك مستقبل قواه وتركيبة العلاقات الدولية فيه.
الأحادية القطبية المحمولة على الدولار والتبادل اللامتكافئ، لم تعد قابلة للاستمرار، ليس لأنّ أساطين الدولار ترهلوا فحسب، بل ولأنها توحّشت في استهلاك ثروات البشر والبشر أنفسهم، ونهبت كميات عملٍ مستقبلي كبرى، سيضطر البشر إلى بذلها للحفاظ على النوع الذي لن يتحقق دون إصلاح الخراب الهائل الذي تم إحداثه على كافة المستويات.
تغير ميزان القوى الدولي بات ضرورةً موضوعية متحقّقة، أي واقعاً. ونحن اليوم شهود هذا التغيير الكبير الذي نرقبه يومياً في ميزان القوى الدولي ويشهده الأمريكيون والأوروبيون وباقي دول العالم في حياتهم اليومية.
ظاهر الانقسام وباطنه
دفعت أبعاد تزايد الانقسامات الداخلية الحادة في الولايات المتحدة التي أضحت واضحة، البعض إلى الحديث عن إمكانية حدوث سيناريو الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، ولا سيّما مع استمرار تداعيات فترة رئاسة «ترامب» على المشهد الأمريكي. وفي هذا الإطار، نشرت «الإيكونوميست» تقريرين بعنوان «السياسة الأمريكية تنقسم، ولاية بولاية، إلى كتلتين»، في 3 أيلول 2022، و«الولايات تصبح إحدى أدوات الانقسام الأمريكي»، في 1 أيلول 2022، وهما التقريران اللذان يستعرضان أبرز مؤشرات التأزم السياسي الداخلي في الولايات المتحدة وانعكاسات هذا التأزم على الاستقرار الأمريكي.
من هذه المظاهر الرئيسية تنامي خطر الانقسام في الأعوام القليلة الماضية في التوجهات السياسية بين الولايات الأمريكية، التي زاد تمايزها بين ولايات داعمة للجمهوريين المحافظين مقابل ولايات أخرى تسود فيها التوجهات الديمقراطية الأكثر ليبرالية. ومن هذا المنطلق، يشير التقريران إلى ما يعتبرانه «أبرز مظاهر الانقسام» في الداخل الأمريكي، وهي فعلاً مجرد «مظاهر» خارجية، لا تعبّر عن جوهر الأمور إلا تعبيراً سطحياً؛ فالتقريران يركزان على خمسة جوانب هي الموقف من: (1- حظر الإجهاض وزواج المثليين، 2- القيود على حمل السلاح، 3- كيفية التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، 4- طريقة التعامل مع تبعات كوفيد19، 5- كيفية التعامل مع التغير المناخي).
نقول إنها مجرد مظاهر سطحية لعمق الانقسام، لأنّ هذه هي اللعبة الأمريكية «الديمقراطية» التقليدية؛ حيث تتمحور الطروحات الانتخابية للمتنافسين من الحزبين القائدين حول هذه القضايا، ويطبّل الإعلام بها ويزمر ليل نهار، وتتحول بالتدريج إلى «جوهر» الحياة السياسية ضمن الوعي السائد.
بهذه الطريقة، تمكنت النخب الأمريكية من تبديل الطرابيش فيما بينها عبر عقودٍ طويلة، مع إبعاد الناس عن جوهر المعارك السياسية الحقيقي، والذي يتمحور حول شكل توزيع الثروة داخلياً وضمناً الحقوق الاقتصادية، والعنصرية والاستعباد الداخلي والنظام الصحي المهترئ والسجون والمخدرات وإلخ، وحول طبيعة السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية...
أي أنّ عملية ممنهجة وطويلة الأمد قد تم العمل عليها ضمن «اللعبة الديمقراطية»، بحيث يجري تجهيل الناس وإبعادهم عن العمل السياسي، وتحويله إلى مرافعةٍ «حقوقية وأخلاقية»، يجري تحت ستارها الاستمرار في إدارة نظام نهبٍ متوحشٍ، داخلياً وخارجياً، لا يمتلك من القيم والمثاليات إلا قيمة واحدة هي عبادة الثروة والسلطة.
ورغم أنّ قسم الأمريكيين حول القضايا الخمس السالفة الذكر، ليس أمراً جديداً إطلاقاً، إلا أنّ حدة الانقسام حولها اليوم، هي بحد ذاتها مؤشرٌ مهم على أمرين متلازمين: (1- حدة الأزمة الحقيقية التي يعيشها الشعب الأمريكي، ليس بخصوص هذه القضايا، بل في حياته اليومية الواقعية: في سكنه وغذائه وعمله وصحته وتفشي العنصرية والعنف فيه وإلخ. 2- حدة الأزمة والانقسام ضمن النخبة الأمريكية نفسها، حول الخيارات الاستراتيجية الكبرى، داخلياً وخارجياً... وهذه طبيعة الأمور: فالقوى المتراجعة تتصارع داخلياً وتتراشق مسؤولية التراجع، وتنقسم مرة وراء مرة وصولاً إلى فقدان الهيمنة والسيطرة).
لمحة عن عمق المسألة
تأتي هذه الانقسامات معبرة عن تدهور اقتصادي شديد غير مسبوق في الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث تلقي إجراءات إبطاء التضخم بثقلها على النشاط الاقتصادي برمته بحيث يبدو الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة واضحاً رغم الإجراءات المتخذة من قبل الاحتياطي الفدرالي لإبطاء التضخم؛ والذي بلغ في شهر حزيران أعلى مستوى له في 40 عاماً، قبل أن يتباطأ قليلاً في شهر تموز (8,5 في المئة)، ما جعل البنك المركزي يرفع تدريجياً فوائده الرئيسية بهدف إبطاء النشاط الاقتصادي وتخفيف الضغط عن الأسعار، وتحدد هذه النسب الاتجاه للمصارف التجارية بالنسبة لنسب الفوائد والقروض التي تعرضها على زبائنها من أفراد وشركات، بالتالي فإن معدلات فوائد أعلى تخفف تلقائياً الاستهلاك والاستثمار.
مما يعني احتمالات تعرض الاقتصاد الأمريكي لهبوط حاد بعدما تعرض لضربة قوية بعدما وصل مقياس التضخم إلى مستويات قياسية فاقت كل التوقعات.
إن بيانات التضخم الحالية جنباً إلى جنب مع ارتفاع الأجور وانكماش سوق العمل تعني أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لن يكون قادراً على التحكم في احتمالات الهبوط... أخطر من ذلك كلّه أنّ الولايات المتحدة تقف اليوم أمام مستوىً نوعيٍ جديد من الأزمات الاقتصادية؛ فأزمة الكساد العظيم عام 1929، كانت «أزمة كساد»، ونفعت معها الحرب كمخرج بالتوازي مع السياسات الكينزية اقتصادياً... الأزمة اليوم هي أزمة كساد تضخمي، أي أنها دائرة مغلقة لا مخرج منها... وتلك قصة أخرى، تحتاج إلى تفصيل أكبر، ولكن الاتجاه العام الواضح للانقسام الأمريكي، وبغض النظر عن المظاهر التي يتم الصراع حولها، هو أنه متجه لمزيد من الحدة والخطورة. وبالذات لأنه صراع وانقسام يجري تغطيته بأقنعة كاذبة، وهذا ما يعرقل اصطفاف أصحاب المصلحة الحقيقية إلى جانب بعضهم البعض، فإنّ هذا الصراع مرشحٌ للتحول إلى صراعٍ عبثي متوحّش، ربما لا يصل حدود التقسيم السياسي، ولكنه وللأسف سيكون صراعاً دموياً شرساً ستنزف فيه دماءٌ غزيرة لمنهوبين يقتتلون فيما بينهم على مذبح انقسامات ناهبيهم...