أوكرانيا بين الفيدرالية والتقسيم والحرب الأهلية
تتواصل التفاعلات في أوكرانيا على الصعد كافة، وتؤشر إلى أن الأزمة التي تعيشها لم تعد أوكرانية بحتة، بل أصبحت قضية قارية ودولية . وتشير في الوقت نفسه إلى أن هذه الأزمة، خلافاً لسابقاتها، تضع جميع الأطراف المنشغلة بها على المحك، حول مستقبل أوكرانيا المفتوح على أكثر من احتمال .
بعد أكثر من شهرين على الاحتجاجات التي شهدتها أحياء من العاصمة كييف ومدن غرب أوكرانيا، وما كشفته من تجاذب اجتماعي - سياسي في المجتمع الأوكراني، بدأ النقاش والحوار حول كيفية الخروج من هذه الأزمة التي تتلخص في انقسام المجتمع الأوكراني، بين منطقة شرق البلاد وجنوبها الغنية بثرواته الطبيعية ومجمعاتها الصناعية ويقطنها الروس والناطقون باللغة الروسية، والمطالب بتطوير العلاقة مع روسيا، وبين غرب أوكرانيا الضعيف اقتصادياً والمطالب بالتوقيع على اتفاقية "الشراكة التجارية" مع الاتحاد الأوروبي، كخطوة نحو الانضمام إليه، ثم إلى حلف شمال الأطلسي .
وإذ يفصل نهر الدنيبر جغرافياً شرق البلاد عن غربها، فإن الواقع الاجتماعي يشير إلى انقسام بين سكان ضفتي النهر، (سكان شرق الدنيبر سلافيون يتبعون بمعظمهم الكنيسة الأرثوذكسية، وسكان غرب الدنيبر يتبعون بمعظمهم الكنيسة الكاثوليكية .
أكد سكان شرق البلاد وجنوبها، رفضهم لتعيين سلطات جديدة مؤقتة، مطالبين بنظام لا مركزي، وصولاً إلى إعلان بعضهم الانضمام إلى روسيا، في الوقت الذي تتباين فيه مواقف دول الاتحاد الأوروبي من الأزمة وتداعياتها على القارة الأوروبية أولاً، بعد مطالبة أطراف من السلطة الجديدة وأنصارها في الغرب الأوكراني التوقيع على اتفاقية "الشراكة التجارية" مع الاتحاد الأوروبي .
كما تتلخص الأزمة في موقفين متناقضين: روسيا التي تصر على أن يقرر الأوكرانيون مصيرهم بأنفسهم عبر الحوار أو الاستفتاء من دون تدخل خارجي، والولايات المتحدة التي ظهر دعمها جلياً للتظاهرات وللسلطة الجديدة، رغم فشل تهديد الحكومة الجديدة المؤقتة ورئيسها أرسني ياتسينوك بالحسم العسكري في شرقي البلاد وجنوبها، كذلك في عدم قدرة وزير الداخلية المؤقت أرسين أفاكوف ضبط الأوضاع في هذه المناطق . وفي هذا السياق ينظر إلى مؤتمر جنيف الذي انعقد في 17 مارس/آذار الماضي، الذي توصل إلى بيان عام ينص على: ضرورة وقف العنف، الحل السياسي، إجراء حوار بين مكونات المجتمع الأوكراني، والتحضير لانتخابات نزيهة وشفافة، ونزع السلاح غير الشرعي، وإخلاء المباني الحكومية . وعلى الرغم من التوافق السريع على عقد مؤتمر جنيف بأطرافه الأربعة (روسيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والسلطة الأوكرانية الجديدة)، فإن تفسير بيان جنيف المختلف، من قبل كل الأطراف وأولوية ترتيب النقاط الواردة فيه، يجعل الأزمة تتحرك في سياق آخر أوكرانياً ودولياً .
فقد شهدت الفترة التي تلت اجتماع جنيف، تحركات على الأرض وتصريحات رسمية لكل من الأطراف الأربعة:
* السلطة الجديدة في كييف التي يرفضها قسم واسع، وربما أغلبية، من مواطني أوكرانيا، وخاصة في شرقها وجنوبها، وعدم قدرتها على بسط سلطاتها على الشرق والجنوب الأوكراني، وصولاً إلى انشقاقات في المؤسسة العسكرية والأمنية .
* الموقف الروسي المطالب بإجراء إصلاحات دستورية، وتنظيم انتخابات، والاعتراف بشرعية انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا دستورياً، واعتماد الفيدرالية في الدستور الجديد .
* الموقف الأمريكي الذي يواصل دعمه ل"السلطة الجديدة" وصولاً إلى إرسال وفود متتابعة إلى كييف وتحريض الشارع على الاستمرار في خطاه نحو "الاستقلال الحقيقي" من النفوذ الروسي .
* الاتحاد الأوروبي وتباين مواقف دوله من الأزمة الأوكرانية، والموقف من السلطة الجديدة، ومن مسألة الانتخابات الرئاسية القادمة المقررة برلمانياً في 25 مايو/أيار المقبل . وقد صاحب هذه المواقف والتصريحات تفاعلات عديدة أبرزها اللقاء بين أوليغ تساريوف، رئيس حركة "الجنوب - الشرق" المرشح للانتخابات الرئاسية مع غريغوري كاراسين نائب وزير الخارجية الروسي .
في هذا الوقت أبدى الجانب الروسي استعداده لتقديم أوسع عملية دعم لتسوية الأزمة الأوكرانية، التي يجب أن يتولاها - بحسب الروس - مواطنو البلاد، التي تتلخص في إصلاح الدستور ومكافحة الفساد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة . ومراقبة ذلك كله من قبل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، إضافة إلى إعلان جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، بأنهم (أي الأمريكان) يسعون إلى تسوية لا تترك آثاراً، أو تبعات على دول الجوار، ولا تؤجج التوتر مع روسيا وتحافظ على ماء وجه الإدارة الأمريكية أيضاً .
بات واضحاً أن السلطات الجديدة في كييف عاجزة عن تنفيذ بيان جنيف، وعن إخماد الاحتجاجات المستمرة، وخاصة في شرق البلاد وجنوبها، في الوقت الذي تطالب فيه هيئات روسية عديدة مثل مجلس الاتحاد الروسي/ الدوما" بحماية السكان الروس في أوكرانيا، ويترافق ذلك مع مطالبات العديد من الأقاليم الشرقية بحماية روسية، وإجراء استفتاء حول مستقبل البلاد . وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد تفويض البرلمان له باتخاذ قرارات حاسمة تضمن حماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا: "آمل ألا أضطر إلى استخدام هذا الحق، وأن نتمكن من حل المشكلات الخطرة بالوسائل السياسية والدبلوماسية" .
وفي هذا السياق ينظر إلى تصريح روسيتسلاف إيشينكو رئيس المركز الأوكراني للتحليل المنهجي والتنبؤات: "أمام واشنطن الآن مشكلة تتمحور في كيفية الخروج من أوكرانيا محتفظة بماء الوجه، أعتقد أن بايدن قادم إلى كييف ليدرس ما إذا كانت سلطاتها قادرة على تأمين الغطاء بالتراجع الأمريكي" .
أسابيع قليلة تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية التي ستؤشر إلى طبيعة الحل القادم، وبانتظاره فإن التفاعلات الأوكرانية الداخلية والخارجية مستمرة . وأن محطة جنيف الأوكرانية سوف تضاف إلى محطة جنيف الإيرانية والسورية، فهل ستحقق أهدافها؟
المصدر: الخليج