أزمة الصحافة ونقرات المشاهدة والترافيك
فيكتور باكارد فيكتور باكارد

أزمة الصحافة ونقرات المشاهدة والترافيك

الصحافة في حالة كارثية. شهد العقدان الماضيان عشرات آلاف الوظائف في الصحف تختفي، ومئات المجتمعات تصبح صحاري إخبارية. النزعة التجارية تستمر بتسطيح وسائلنا الإخبارية والتشويش عليها بطريقة خطرة. ومع ذلك تفلت الحدود الدقيقة لهذه التحولات الهيكلية من التدقيق، وغالباً ما يكون من غير الواضح ماذا يحدث.

ترجمة : قاسيون

الهيكل التجاري متعفّن حتّى النخاع. هناك الكثير من الأمراض المزمنة في هذا الهيكل التجاري لوسائل الإعلام، ولكنّ أحد الأعراض التي تزداد وضوحاً ولم تحصل على قسطها من الدراسة هي كيف يؤدي البحث اليائس عن الإيرادات المتناقصة باستمرار إلى تفاقم سوء شروط العمل؟ ما يؤدي بدوره إلى تدهور رفاه الصحفيين، والمحتوى الذي ينتجونه، وسقوط الإعلام المجتمعي.

أدّت الضغوط التجارية المكثفة لنمو «مقاييس غرف الأخبار» التي تقيس تفاعل القرّاء مع المحتوى الرقمي للأخبار. عبر تقديس هذا التفاعل من الجمهور، يتم الضغط على الصحفيين لتحسين المحتوى الخاص بهم ليجلب نقرات مشاهدات أكثر، بطرق تؤدي إلى تدهور ظروف عملهم.

رصدت إحدى الدراسات التزايد الهائل لاعتماد وسائل الإعلام على هذه المقاييس للحصول على نتائج متواصلة حول أداء محتواهم الرقمي. يحتفظ البعض بلوحة بيانات كبيرة مثبتة على الحائط – يشار لها أحياناً باسم اللوح الكبير – هدفها الرئيس إظهار مقاييس النقر والحركة الرقمية للوصول إلى قصص محددة. يجاوز الأمر حتّى مرّات النقر للوصول للخبر، ليصبح الوقت الذي قضاه صاحب النقرة في قراءة المقال، أو قيامه بمشاركته، مقياساً مهمّاً بشكل استثنائي.

طوّر الصحفيون – بسبب إجبارهم الضمني على متابعة هذه المقاييس على شاشاتهم والتي يحصلون على مكافآت بسببها – هوساً ضارّاً بهذه المقاييس. يعيد هذا الأمر تشكيل العمل الصحفي بأكمله.

 

أبعد من ترويج

تشكّل هذه المقاييس مجموعة ناشئة من الاستراتيجيات الإدارية لتطويع العمل الصحفي. هذا النمط الجديد من زيادة الكفاءة الإنتاجية للعمّال يتسلل بشكل تدريجي إلى ما كان يسمّى بالعمل الإبداعي والمعرفي – وهي مجالات الخبرة التي اعتادت على التمتّع باستقلالية أكبر من العمالة الصناعية.

ورغم أنّ التوقعات المهنية من الصحفيين لطالما كانت مجالاً للمغالاة في افتراض الاستقلالية – فالصحفيون في نهاية المطاف عمّال، ولا يزالون موضع استغلال رأسمالي – فإحساس الصحفيين بالاستقلالية والوكالة عن الذات، قد تأثر بشكل حاد، ما يعني تأثر نظام عملهم بأكمله.

وكي تنجح الاستراتيجية الإدارية لتطويع الصحفيين، يجب أن يستمر شعورهم ببعض الوكالة عن الذات. من هنا، وعبر دفع الصحفيين لإدمان لعبة النقر والمشاهدات الأكثر للمواد التي يقومون بإنشائها، باتت مقاييس غرف الأخبار تعمل بشكل فعلي بمثابة نظام للمراقبة الإدارية.

فرغم عدم وجود إجبار مباشر من قبل المدراء، باتت سياسة تحقيق نقرات أكثر تقوم بدفع الصحفيين للعمل بجهد أكبر لخدمة مصالح المدراء أكثر من خدمتهم لمصالحهم، وعلى حساب استقلاليتهم النسبية في اختيار محتوى موادهم. بهذه الطريقة تجبر المؤسسات الإعلامية الصحفيين فيها على العمل أكثر مقابل أقل، في ظلّ الظروف غير المستقرة بشكل متزايد.

يمكن هنا أخذ مثال فيسبوك: الوحش غير المخفي الذي يمكن اعتباره بخوارزمياته المتحيزة حارساً لبوابة رئيسية للقرّاء حول العالم، يحدد من يمكنه العبور من عدمه. بات لدى الصحفيين والمراسلين نوعٌ من الغريزة تستدعي انتباههم الكلي لمآل المواد التي يصنعونها على فيسبوك.

بالنسبة للكثير من الصحفيين وصنّاع المحتوى – وخاصة الذين يواجهون عدم أمان وظيفي كبير بحكم طريقة تشغيلهم – يصيغون محتوى موادهم وفقاً لمعايير جذب النقرات والمشاهدات، أي الجدل والصراع والإثارة وأيّ شيء يدفع الأشخاص للتفاعل مع القصص، وبالتالي تحقيق المزيد من عائدات الإعلانات.

 

مستهلكون لا جماهير

يجبر هذا الهيكل الجديد الصحفيين وصنّاع المحتوى على التعامل مع القرّاء ليس بوصفهم جماهير يجب مشاركتهم في نظام سياسي ديمقراطي، بل بوصفهم مستهلكين غير سياسيين باحثين عن الترفيه والإثارة. من خلال تعزيز موقع المشاهد والقارئ المستهلك، تقلل قيم السوق من قيمة الاهتمامات الأخرى التي يصعب قياسها، مثل المساهمة الصحفية بخدمة الديمقراطية.

يحاول المدافعون عن هذه المقاييس إعطاء الانطباع بأنّها تسمح للصحفيين بالاستجابة لرغبات جماهيرهم، وبالتالي هي تضفي الطابع الديمقراطي على الأخبار. لكنّ هذه المقاييس هي ضربة أخرى لكرامة ونوعية المحتوى، ولقطاعات الإبداع والعمل المعرفي الأخرى.

يمكننا فهم الرابط بين هذين الأمرين عبر إدراك عدم براءة موجهات المقاييس. يبدو هذا واضحاً في عدم قدرة الصحفيين على وضع خطوط واضحة بين الاستخدامات النظيفة والقذرة لبيانات الترافيك والنقرات.

ربّما الأمر الوحيد الجيّد في هذه الهيكلية هي أنّها تذكّر الصحفيين وصنّاع المحتوى بأنّهم عمّال، وبأنّ عملهم المبدع ليس مستقلاً بغض النظر عن شغفهم به. هذا الهيكل الذي باتوا مجبرين على العمل فيه هو مثال آخر عن الفساد المؤسسي الأعمق للنظام القائم.

لكن مثل جميع القطاعات الأخرى في الرأسمالية، يبدو الاتحاد غير المقدس بين الصحافة والرأسمالية مترنحاً تحت وطأة التناقضات الرأسمالية. وظروف العمل المتدهورة في الصحافة هي جزء من الكل الأوسع. قد يشجعنا هذا على النظر إلى أزمة الصحافة التجارية كفرصة لخلق شيء مختلف تماماً.

 

بتصرّف عن: Management by Metrics Is Upending Newsrooms and Killing Journalism