«حركة عدم الانحياز» وميزان القوى العالمي الجديد
رهام الساجر رهام الساجر

«حركة عدم الانحياز» وميزان القوى العالمي الجديد

التقى يوم الإثنين 11 تشرين الأول الجاري، ما يقارب 100 دولة من كل أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأجزاء مهمة من آسيا وبعض المنظمات الدولية، في اجتماعٍ رفيعِ المستوى إحياءً للذكرى الستين لحركة عدم الانحياز والذي انعقد في بلغراد، المدينة التي تأسّست فيها الحركة قبل 60 عامًا.

عقدت حركة عدم الانحياز في العاصمة الصربية اجتماعًا تذكاريًّا، والَّذي تمَّ تنظيمه من قبل صربيا، الدولة المضيفة، وأذربيجان، الرئيسة الدورية لحركة عدم الانحياز، واستمر الاجتماع لمدة يومين، أجمع فيه المشاركون على أنّ قضيّة المساواة بين الدول والأمم ما زالت من أهم المعضلات التي يواجهها العالم، مشدّدين على ضرورة مواصلة النضال وتوحيد الجهود من أجل استكمال سيادة الدول واحترام حقوق الإنسان والنضال ضد العنصرية والكراهية.

حجر الزاوية

قال إلهام علييف، رئيس الدورة الحالي، في كلمته الافتتاحية عبر الفيديو: «لقد لعبت حركة عدم الانحياز دورًا مهمًا على الساحة الدوليّة بجهودها المتفانية من أجل السلام العالمي والعدالة والتضامن».
أما ألكسندر فوتشيتش، رئيس صربيا التي تستضيف الحدث فقال: «أنا مقتنع بأن بلغراد، كرمز لمفترق طرق ونقطة التقاء بين الشرق والغرب، ستشجع الحوار بين الطرفين»، في حين أكّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، على «أنّ حركة عدم الانحياز لها دور حاسم تلعبه في العالم».
وأكد عبد الله شهيد، رئيس الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في خطابه أنّ «حركة عدم الانحياز هي حجر الزاوية في النظام العالمي متعدد الأطراف، على الرغم من أن الوضع الدولي قد تغير، فإن احتياجات العالم للدبلوماسية والتعددية لم تتغير».
وأوضح ممثل الرئيس الجزائري – الوزير الأول السيد بن عبد الرحمن أنّ «ضرورة تعزيز أسس عدم الانحياز تبرز مجدداً، حيث ستسمح مبادئ عدم الانحياز بالمضي قدماً من أجل تحقيق السلام والاستقرار في العالم»، وأضاف «ما زلنا نؤكد على ذلك من أجل ضمان الاستقرار والسلام والتنمية المتوازنة لجميع الشعوب».

العالم أكبر من خمسة

وفي مَعرِض الاجتماع أشاد وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو بالحركة باعتبارها «صوت عالم عادل وشامل»، وأكد على أن «عالم اليوم ليس عالم 1961، فلقد انتهت الحرب الباردة، وتحول العالم ثنائي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب».
وأشار أوغلو إلى أنّ الإعلان الأول للحركة الموقّع في بلغراد عام 1961 دعا إلى اتخاذ إجراءات بشأن ثلاثة مجالات رئيسة: عدم المساواة الاقتصادية، وإصلاح الأمم المتحدة، ونهج متعدد الأطراف وشامل بشأن القضايا العالمية، بقوله: «... ما زلنا نناقش كل هذه القضايا اليوم؟ التفاوتات آخذة في الازدياد في جميع أنحاء العالم، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن تزايد التفاوتات يؤثر سلبًا على أكثر من 70% من سكان العالم»، أما فيما يتعلق بإصلاح الأمم المتحدة، دعا مؤتمر بلغراد إلى توسيع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالقول إنّ «العالم أكبر من خمسة، فإننا ندعو أيضًا إلى نظام أممي أكثر شمولية وتمثيلًا».

لا بديل للحوار

صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالةٍ إلى الاجتماع بأنّ حركة عدم الانحياز تمسّكت دائمًا بمبادئ المساواة واحترام السيادة والحقوق والمصالح المشروعة، ودعا إلى إجراء حوار بنّاء متعدد الأطراف مع الالتزام الصّارم بميثاق الأمم المتحدة، كما أشاد بالوجود الدولي لحركة عدم الانحياز ودورها في العلاقات، وقال وزير الخارجية الروسي لافروف :«آمل أن يرسل اجتماع اليوم في بلغراد المضيفة، مثل قمة عدم الانحياز الأولى التي عقدت في نفس المدينة عام 1961، إشارة واضحة نيابة عن غالبية البلدان حول عدم وجود بديل للحوار بين الدول على أساس مبادئ المساواة»، كما أعرب عن امتنانه لجميع أعضاء حركة عدم الانحياز على قرارهم بالإجماع بمنح روسيا صفة مراقب.
أما الصين، فقد أبرزت من خلال وانغ يي، مستشار الدولة ووزير خارجيتها، أن العالم يشهد تغييرات رئيسية لم يشهدها منذ قرن ولا سيما بسبب وباء كورونا، الذي يهدد بزعزعة الاستقرار، مؤكدةً على ضرورة التصدي للتحديات معاً والتغلب على العوائق وبناء بيئة دوليّة مواتية للبلدان النامية.

ميلاد الحركة

عرف مؤتمر بلغراد الذي نُظِّم من 1 إلى 4 سبتمبر 1961 ميلاد حركة عدم الانحياز وكان تتويجاً للمؤتمر الأول بباندونغ في سنة 1955، والذي يُعد ثمرة أول تقارب دبلوماسي بين البلدان الآسيوية والإفريقية، حيث مثّلت البلدان التي تشكّلت في أعقاب الإمبراطوريات والمستعمرات الكبرى في العالم – التي كان يشير إليها الغرب بسخرية باسم «العالم الثالث» – مع كونها تأتي في المرتبة الثانية بعد الأمم المتحدة بحجم العضوية، وتضم شخصيات مثل نيلسون مانديلا والرئيس المصري عبد الناصر ورئيس الوزراء الهندي السابق جواهر لال نهرو.
وقامت على ثلاثة مطالب كبرى: دعم تصفية الاستعمار، وإدماج بلدانهم في النظام متعدد الأطراف، والتنمية الاقتصادية، حيث شكلت القمة الرابعة لرؤساء الدول والحكومات التي نظمت بالجزائر من 5 الى 9 أيلول 1973 تحولاً في تاريخ الحركة حيث تعلق الأمر بمسألة الدفاع عن نظام اقتصادي عالمي جديد من شأنه أن يحل محل نظام ذو طبيعة استعمارية وإمبريالية يُعطي الأولوية للبلدان الغنية على حساب البلدان الفقيرة.

المستقبل والآفاق

عدم الاكتراث بمؤتمر حركة عدم الانحياز في الإعلام العالمي، مع أنّها تضم أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لم يمنعها من المبادرة هذا العام بالدعوة لعقد جلسة استثنائيّة للجمعيّة العامّة في نيويورك لبحث سبل المعالجة العالميّة الشاملة لجائحة كورونا، إذ احتجّ المجتمعون على التوزيع الغير العادل للقاحات في جميع أنحاء العالم بسبب تخزين لقاحات كورونا الجديدة في بعض البلدان، وطالبوا بتوزيعٍ عادلٍ للقاحات.
إنّ دور حركة عدم الانحياز مطلوب اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، كون أنّ الإنسانيّة بأسرها قد أضحت مهدّدة بالهلاك بسبب الرأسماليّة المتوحشة، في ظل الصراع اليوم بين الاستعمار القديم- الحديث بما يعنيه من سيطرة الغرب على العالم، وبين نظام علاقات دولية جديد بالكامل يقوم على أنقاض التبادل اللامتكافئ، ويتطلب موارد ضخمة، ماديّة وبشريّة، لتحقيق الاستقلال الكامل عن التبعيّة للغرب.
وهذا لا يتطلب إنهاء النهب فحسب، بل إنهاء مختلف أشكال الصراعات البينية بين دول آسيا بالدرجة الأولى، وبين دول إفريقيا بالدرجة الثانية، وحلّ هذه الصراعات أيضاً، يحتاج بنىً سياسية جديدة تقطع نهائياً مع شكل وطريقة إدارة البلدان خلال مرحلة التبعية، ما يعني فتح الباب نحو تحّول جذري في هذه البلدان لأنّ بقاء هذه الصراعات يعني بقاء الحدود مغلقة في وجه طريق الحرير الذي يشكّل القاعدة الماديّة والبنية التحتيّة للاستقلال عن الغرب.