احتمال نشأة «كورونا» من مختبر للجيش الأمريكي: «نظرية مؤامرة» أَمْ فرضيّة معقولة؟
رغم مضي أشهر على تقرير بعثة منظمة الصحة العالمية إلى الصين آخر آذار الماضي، والتي لم تجد دليلاً على نشوء الفيروس من مختبر ووهان، ما زالت القضية محلّ تجاذب سياسيّ، فبعد كل تصريح أمريكي تردّ الصين بالتذكير بتعاونها، داعيةً بالمقابل للتحقيق بأسباب ضعف الاحتواء الأمريكي للوباء، مع تساؤلات عن مختبر الأسلحة البيولوجية والكيميائية في قاعدة «فورت ديتريك» العسكرية الأمريكية بولاية ميريلاند. يتناول التقرير التالي بعض تصريحات الطرفين، إضافة لمعلومات عن مختبر «فورت ديتريك» وخاصةً ما كشفته السنة الماضية باحثةٌ أمريكية سبق لها العمل فيه.
قال جاو ليجيان، المتحدث باسم الخارجية الصينية، في 1 آب: «لكي تزيح الولايات المتحدة عن كاهلها مسؤولية ضعف الاستجابة لكوفيد-19، وبدافع سياسي لتلطيخ وقمع الآخرين، لطالما انشغلت بتسييس، ووَصم، وتحويل، دراسة تتبّع المنشأ [للفيروس] إلى أداة تستغلّها، جاعلةً من الكذب وتشويه السمعة والقسر ممارستها التقليدية، بلا أيّ احترام للحقائق والعلم والعدالة. مثل هذا السلوك الخسيس للولايات المتحدة، سيترك وصمةَ عارٍ بتاريخ محاربة البشرية للأمراض... وحتى تبرهن أنها «شفافة ومسؤولة»، عليها البدء بأربعة أمور: دعوة خبراء منظمة الصحة العالمية للتحقيق في فورت ديتريك Fort Detrick وأكثر من 200 من مختبراتها البيولوجية خارج أراضيها؛ ودعوتهم للتحقيق بجامعة نورث كارولينا؛ والإفراج عن البيانات المتعلقة بالرياضيين العسكريين الأمريكيين المرضى الذين حضروا الألعاب العسكرية الدولية في ووهان».
وفقاً لصحيفة «غلوبال تايمز» الصينية وصل عدد الصينيّين الموقّعين على عريضة إلكترونية تطالب منظمة الصحة العالمية بتفحّص قاعدة «فورت ديتريك»، منذ أواسط تموز حتى 6 آب 2021 إلى 25 مليون شخص. وأضافت بأنّ موقعها الإلكتروني يتعرّض منذ ذلك الوقت إلى هجمات سيبرانية من خوادم تقع مقرّاتُها في الولايات المتحدة.
بالمقابل، ومن بين ما نشره الإعلام الأمريكي، مقالٌ في مجلة «فورين بوليسي» في 9 تموز الماضي بعنوان «الصين تردّ على بايدن بنظريات مؤامرة حول مختبر ميريلاند»، ويقول إنّ ما لا يقلّ عن 35 مسؤولاً ووسيلة إعلام للدولة في الصين ذكروا اسم «فورت ديتريك» في أكثر من 115 تغريدة بتسع لغات منذ 27 أيار 2021، وأنّ كثيراً من هذه التغريدات حاولت «تلطيخ سمعة» مختبر فورت ديتريك.
أين سُمعَتُه «النظيفة»؟
وفقاً لتقرير لغلوبال تايمز الصينية، كانت لهذه القاعدة الأمريكية علاقات وثيقة مع الوحدة 731 سيئة الصيت، وهي وحدة الحرب البيولوجية التي كانت تابعة للجيش الإمبراطوري الياباني وأجرت تجارب بشرية مروِّعة على أسرى الحرب والمدنيين في شمال شرق الصين خلال الحرب العالمية الثانية. فرئيس الوحدة 731 إيشي شيرو، تمّ تعيينه مستشاراً للأسلحة البيولوجية في «فورت ديتريك» الأمريكية.
داء «إيفالي» في أمريكا، صيف 2019
أرسلت «المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية» CDC في تموز 2019 رسالة إلى «فورت ديتريك» تطلب إنهاء معظم عملياتها بسبب «مخاوف أمنية». وفي الشهر نفسه، بدأت أمراض الجهاز التنفسي مجهولة المصدر، بالظهور في شمال ولاية فرجينيا. وأفادت وسائل الإعلام الأمريكية عن انتشار واسع لـداء سمّي «إيفالي» EVALI (معناه: «إصابات الرئة المرتبطة بالسجائر الإلكترونية»، وأعراضه مشابهة جداً لأعراض كوفيد-19) في ولاية ويسكونسن ثم عدة ولايات أخرى. وفي أيلول 2019، أبلغت ولاية ماريلاند، حيث تقع القاعدة العسكرية الأمريكية «فورت ديتريك»، عن تضاعُف عدد مرضى «إيفالي».
شاهِدة من داخل فورت ديتريك
الدكتورة جودي مايكوفيتس Judy Mikovits باحثة أمريكية بالتقانة الحيوية والسرطان، عملت سابقاً داخل مختبر «فورت ديتريك» بالذات، وأصدرت قبل منتصف السنة الماضية 2020 كتاباً بعنوان «طاعون الفساد» Plague of Corruption تفضح فيه كثيراً من التفاصيل ليس فقط حول ما يجري في هذا المختبر، بل وفي المؤسسات البحثية والصحية الأمريكية بشكل عام منذ الثمانينيّات.
وعانت الدكتورة مايكوفيتس سابقاً من ملاحقة الحكومة الأمريكية لها والتضييق على بعض أعمالها البحثية التي قدّمت فيها أدلةً تدعم فرضية أنّ بعض أنواع السرطانات وأمراض الشيخوخة حديثة الظهور مثل «ألزهايمر» ربما نتجت عن تسرّب فيروسات معيّنة من الحيوانات إلى الإنسان بسبب استعمال مخابر الأبحاث لطرق غير آمنة بالتعامل مع النسج الحيوانية والبشرية لتربية الفيروسات فيها بغرض دراستها أو ابتكار اللقاحات، فتم اعتقالها وتهديدها لعدة أيام دون مذكرة اعتقال. ووجدت محامياً مغامراً للدفاع عن قضيتها ضد الحكومة، اسمه مايك هوغو، يميل لتولّي قضايا شائكة، وسبق له مثلاً تولّي قضية «مشروع كولومبيا» ومقاضاة الحكومة الأمريكية لقيامها برشّ مبيد الـ«غليفوسات» glyphosate على حقول الأفيون الكولومبية مسببة تسربه إلى الإكوادور وتدمير المزارع وصحة الناس في ذلك البلد. كما ساعد أيضاً محامياً صديقاً له لمقاضاة شركتين أمريكيّتين كبيرتين تسبّبتا بتلوث بيئيّ فيما اشتهر آنذاك باسم قضية Woburn مكبّداً إيّاهما إحدى أكبر الغرامات بتاريخ قضايا من هذا النوع.
والباحثة بعيدة عن أيّ «تعاطف» مع الصين، بل لا تخفي مناهضتها «للشيوعية» على أساس إيديولوجيّ، نظراً للطابع المتديِّن لأفكارها، والذي لا يقلّل مع ذلك من أهمّية القسم الموضوعي من المعلومات التي وثّقتها في كتابها.
تطوير الإيبولا والجمرة الخبيثة
انتقدت الدكتورة مايكوفيتس ماضيها بالذات لأنّ إحدى مهمّاتها في مختبر فورت ديتريك كانت مثلاً استعمال تقنية تعرف باسم «إكساب الوظيفة» Gain of Function من أجل «تدريب فيروس الإيبولا لكي يصبح قادراً على التطفّل على الخلية البشرية دونَ قَتلِها» وهو أمرٌ مفتوح الاستخدام باتجاهين: للخير وإيجاد علاجات ولقاحات، أو للشرّ وتصنيع أسلحة بيولوجية. وقالت إنها كانت «ساذجة» لأنها استَبعدتْ في شبابها الاحتمالَ الأسوأ.
وقالت في كتابها: «بين عامي 1983 و1986 عملتُ مع فرانك روزيتي في برنامج (عوامِل تعديل الاستجابة البيولوجية) في فورت ديتريك، ميريلاند. وكانت تلك الأيام الباكرة لأبحاث فيروس الإيدز HIV وكنتُ أعمل كأخصائية تقنية أقضي معظم وقتي في مختبر سلامة بيولوجي من المستوى الثالث L3 لحسن الحظ، نظراً لكل تلك الأسلحة الكيميائية والبيولوجية التي تم استعمالها وكانت مُخزَّنة في القاعدة، واكتُشِفَت لاحقاً. فالمبنى الذي كنت أعمل فيه سبق أنْ استُخدِمَ من أجل اختبار الجمرة الخبيثة كسلاح... وأمسكتُ مرةً بأحد العلماء الجُدد متلبِّساً وهو يتلاعب بالبيانات لتقديمها كتقرير إلى مدير البرنامج... تلك الحادثة هي التي دفعتني لترك العمل مع الحكومة الفيدرالية...».
ورغم انضمامها للعمل بالمخبر بوصفه لأبحاث السرطان إلّا أنها تتابع: «ولكن فورت ديتريك لم تستطع الهروب تماماً من ماضيها كمختبر للأسلحة الكيميائية والبيولوجية. أنا أقصد، أين يُفتَرض بهم أن يخزّنوا كل تلك العوامل البيولوجية والكيماوية؟ لقد تحوّلت فورت ديتريك إلى مؤسسة التخزين الرئيسة لهذه البرامج. وفي الواقع، استعمل الجيش المنطقة المحيطة بفورت ديتريك لاختبار تراكيز العامل البرتقالي في الهواء، باستخدام الحوّامات والطائرات».
ومما كتبته أيضاً: «وفقاً لما شرحه مايك [محاميها] لاحقاً، فإنّ فورت ديتريك كانت تحوي جميع الكيماويات الرهيبة نفسها التي صادفها في قضية Woburn وكذلك على عوامل بيولوجية. لقد كانت مكبَّ نفايات كيميائي وبيولوجي». وأوضحت بأنّ محاميها مايك سبق له الدفاع عن عائلة أمريكية أصيبت مع أطفالها بالسرطان، ليكتشف حينها بأنّ ثمة وفياتٍ جماعية بسرطانات قد وقعت في مجموعة عائلات مجاورة كان المشترك بينها جميعاً أنها تقطن بمحيط قاعدة فورت ديتريك تحديداً.
تذكير بفضائح الإيدز الغربية
جمعت الدكتورة جودي أيضاً معلومات عن فضائح سابقة للنظام الصحي الغربي، قد لا يعرفها كثيرون، وحاول الإعلام الغربي خلق «فقدان ذاكرة» حولها لاحقاً. ففي عام 2003 مثلاً انكشفت فضيحة دواء أنتجته شركة باير Bayer العملاقة العالمية التي مقرّها ألمانيا، كعلاجٍ مخثّرٍ للدم لمرضى الناعور (أحد أمراض الدم النزفية الوراثية)، حيث باعت منه في أواسط الثمانينيات جرعات بقيمة مليون دولار لآسيا وأمريكا اللاتينية كانت ملوّثة بفيروس الإيدز! في حين باعت الشركة نسخةً أكثر أماناً من الدواء نفسه للدول الغربية. وكتبت صحيفة نيويورك تايمز عام 2003:
«قال الدكتور سيدني وولف، مدير مجموعة أبحاث الصحة في منظمة بابليك سيتيزن، والذي أجرى تحقيقاً في ممارسات الصناعات على مدى ثلاثة عقود: (هذه الوثاق الصيدلانية الداخلية هي الأكثر إجراماً التي رأيتها في حياتي)... ففي الولايات المتحدة تمّ نقل الإيدز إلى آلاف مرضى الناعور مما تسبب بوفاة كثير منهم، في واحدة من أسوأ الكوارث الطبية الدوائية في التاريخ. أما شركة باير وثلاثٌ غيرها ممن ساهموا بصناعة العقار، فلم يعتبروا أنّهم فعلوا شيئاً خاطئاً، ولكنهم دفعوا لمرضى الناعور المتضررين 600 مليون دولار لتسوية أكثر من 15 سنة من الدعاوى القضائية بتهمة صناعة منتوج خطير».
قد لا يكون هذا غريباً عندما نتذكر بأنّ شركة باير Bayer صاحبة ماضٍ مشين معروف بتصنيع الأسلحة الكيميائية النازية وغاز الكلور إبّان الحرب العالمية الأولى.
وإزاء مسؤولية الحكومات بالتقصير بمراقبة سلامة بنوك نقل الدم من فيروس الإيدز، لاحظت الكاتبة سوء أداء كلّ مِن الحكومتين البريطانية والأمريكية، مقارنة مثلاً بالحكومة اليابانية التي قامت بالتسوية والاعتذار عام 1996 بشكل أبكر بكثير.
أما الحكومة البريطانية فانتظرت أكثر من 30 سنة قبل اعتذارها رسمياً عن فشلها بحماية بنوك الدم لديها أواسط الثمانينيّات من التلوث بالإيدز والتهاب الكبد المزمن، ولم تعترف صراحةً بفشلها ولم تفتح تحقيقاً عاماً سوى في أيلول سنة 2018! وهذا الأمر موثّق بتقرير نشرته BBC بتاريخ 26 أيلول 2018، جاء فيه:
«قدّمت الحكومة اعتذاراً بشأن فضيحة الدم الملوث، عن الأذية العامة التي أصيب بمقتضاها آلاف الناس بالإيدز والتهاب الكبد... فيما سمّي بأسوأ كارثة علاجية بتاريخ خدمات الصحة العامة NHS. حيث تحدّثت إيلينور غراي كيو سي نيابةً عن وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية في إنكلترا، ونيابةً عن المؤسسة السابقة لها التي كانت تغطي المملكة المتحدة بأكملها، قائلةً: نحن آسفون، لقد حدث هذا في الوقت الذي ما كان ينبغي له أنْ يحدث».
ولم يكن الوضع أفضل في الولايات المتحدة، حيث وقعت فضيحة مماثلة، وصدر حولها كتاب شهير للمؤلف راندي شيلتس، واضطرّت حتى صحف أمريكية من التيار السائد كنيويورك تايمز إلى نشر تعليق عليه، في مقال لها في 13 تشرين الأول عام 1987 بعنوان «جدال طويل حول الإيدز: ما مدى جودة استجابة أمريكا؟» ومما جاء فيه:
«إنّ بنوك الدم الوطنية رفضت في البداية الاقتراحات التي أشارت إلى أنّ فيروس الإيدز يمكن أن ينتقل من خلال نقل الدم، فقللت من شأن الأدلة الأولية على ذلك... ورفضت تطبيق فحوصات تجريبية لاكتشاف الدم الملوَّث. وكان هذا، كما يقول السيد شيلتس، عائداً لدرجة كبيرة إلى خشيتهم من اهتزاز ثقة العامّة ببنوك الدم، وفقدان مصدر مهم للدم من المتبرّعين المثليّين، أو تحمل تكاليف الفحوصات. ولم تتخذ بنوك الدم أية إجراءات فعّالة إلّا بعدما أصبح الدليل ساحقاً وتوافرت اختبارات مسح أفضل».
وعلّقت مايكوفيتس في كتابها قائلة «إنّ فساد الإيدز، وانعدام الإنسانية من جانب مجموعات كثيرة، قد انكشف في نهاية المطاف أمام كلِّ ذي عَين ترى في العالَم كلّه، لا فقط بما يتعلق بالشركات، بل وبالحكومات التي فشلت أيضاً».
صورة من كتاب مايكوفتس (طاعون الفساد – 2020) وكتبت معلقةً عليها: «هذا المبنى رقم 567 حيث المختبر الذي عملت فيه L3 ويقع على زاوية الطابق الثالث... الكرة المعدنية الكبيرة المعرووفة باسم eight-ball المرئي جزء منها خلف المبنى كانت تستخدم لتعريض الحيوانات للغازات الكيماوية والعوامل البيولوجية. أما المبنى الذي خلف الكرة فكانت تتم فيه اختبارات الجمرة الخبيثة».