وظيفة الديمقراطية بين الـ بوعزيزي و د.عزمي بشارة
نشر مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة، تعليقاً في صفحته على الفيسبوك، حول الحدث التونسي عنونه بـ«الديمقراطية التونسية في مواجهة الشعبوية»، 27 يوليو/تموز 2021، يوضح فيه رفضه للإجراءات التي قام بها الرئيس التونسي، في إطار الصراع مع حركة النهضة (التيار الإخواني)، وبغض النظر عن الموقف من الرئيس التونسي وإجراءاته الأخيرة، فقد تضمّن تعليق د. عزمي فكرةً نظنّ بأنها ملتبسة في الجانب المعرفي، وتحتاج إلى ضبط بالمعنى المفاهيمي، وتشريحاً بالمعنى الدلالي.
إذ جاء في تعليق د. عزمي «الديمقراطية بحد ذاتها هي حل لآفة الطغيان والاستبداد وضمان لحقوق المواطن، وليست حلاً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. فهذه وظيفة القوى السياسية والاجتماعية وسياسات القوى الحاكمة ومؤسسات الحكم، وذلك في إطار النظام الديمقراطي الذي يجب الحفاظ عليه لأن البديل هو الاستبداد» – انتهى الاقتباس.
هكذا إذاً «...الديمقراطية حلٌ لضمان حقوق المواطن، وليست حلاً للمشاكل الاقتصادية...»، وماذا عن حق المواطن في المأكل والملبس والمسكن، أم أنها ليست حقوقاً طبيعية ونَزَعَها سرّاق الثروة؟
خير مَن نظّر للحراك الشعبي وللديمقراطية على حقيقتها كما أعتقد، هو الـ بوعزيزي الذي ارتبطت باسمه شرارة الحراك الشعبي، فهو لم يكن من النخبة السياسية، وربما لم يمارس السياسة بالمعنى الحزبي يوماً، ولا أظن أنه أشعل النار في جسده، باسم التيار الإخواني، أو البورقيبي، أو الماركسي أو القومي. الرجل بائعُ بسطة في سوق شعبي، كان همه الأول أن يبيع بضاعته، ليخفف من طغيان وتسلط واستبداد الجوع الذي يصنعُه السادة اللصوص، ويحرسُه كرباج شرطي أرعن فاحتجّ بطريقته على هذا القهر المركَّب، وكتب بطريقته البيان الديمقراطي رقم 1، وأعاد الاعتبار لحركة الشارع من خلال حراكِ أكثر الأوساط فقراً، ففعلَ ما لم تستطعْ فعلَه كلُّ الأكاديميات العربية وتنظيراتها عن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان منذ ثلاثين عاماً، رغم كل ما توافر لها من مال ومنابر إعلامية ومراكز أبحاث...
الديمقراطية ليست معطىً إرادويّاً، ولا مجرّد مفهومٍ ثقافي-قانوني، وإنها حتى لا تكون كسيحةً وعرجاء، يجب عليها أنْ تعكس توازن القوى في المجتمع. وميزان القوى الواقعي في المجتمعات المعاصرة هو ذاك الذي يعبِّر عن المصالح الاجتماعية وجوباً، لأن كل الاصطفافات الأخرى هي اصطفافاتٌ قبْلية، تقليدية لا علاقة لها بالديمقراطية، لا في بعدها المعرفي-النظري، ولا بُعدِها التطبيقي... جميعُ الانقسامات الأخرى هي منافية للديمقراطية شكلاً ومحتوى. أليس حكم الأغلبية هو الأساس المادي للديمقراطية؟ الديمقراطية التي لا تعبّر عن مصالح الأغلبية المنهكة فقراً وقمعاً واستبداداً، ولا تفتح لها الطريق كي تدخل إلى التاريخ، لا تساوي في قيمتها (بسطة) البوعزيزي...
الاستبداد ليس مجرد مسألة سياسية ثقافية مجرَّدة كما يلمّح د. عزمي، بل هو في حالة وظروف بلدان الأطراف هرمٌ كامل: ثقافي اقتصادي-اجتماعي سياسي، تاريخي، وراهن... وإنّ تجاهل أيٍّ منها وخاصة قاعدة الهرم أيْ العماد أو العامل الاقتصادي، لَيُؤدّي إلى انهيار العمارة الديمقراطية كاملة، لأنّ وظيفة الاستبداد الأساسية، ومبرّر وجوده هنا، هو حماية النهب والناهب، ولأن الطغيان الاقتصادي الذي يقزِّمُه السيد عزمي إلى (المشاكل الاقتصادية) يتجلّى بأقليات تملك كلَّ شيء، وأغلبيّات تعاني الفقر والتهميش والحرمان والإحباط واليأس وتصبح موضوعياً مَفرخةً لإنتاج التطرف، والعصبيات، والشعبوية. وهذه المصفوفة من ألفها إلى يائها هي نقائض الديمقراطية، ولا سيّما أنّ إعلام البترو-دولار ينفخُ فيها الروحَ صباحَ مساء، وينظّر لها، مستخدماً أرقى تقنيات الإعلام الرقمي. إنَّ تجاهل كون احتكار الثروة أحد أهم تجليات الطغيان... وكل محاولة لإخراج الديمقراطية كممارسة من دائرة الصراع الاجتماعي، هي تصفيةٌ للديمقراطية، ونزعُها من مجالها الحيوي، وحكمٌ بالموت عليها، واستبدادٌ معرفيٌّ مُستَقوٍ بسلطة الاسم، لا سلطة الفكر.
ديمقراطيةٌ من هذا النموذج، هي ديمقراطيةٌ معلَّقةٌ في الهواء، وإذا صحَّت التسمية هي ديمقراطية شعبوية، تحاكي مزاج وحاجات مجتمعات مقهورة، تعاني الاستبداد دون أن تستهدف قاعدة هرم الاستبداد، وسببه، وأمّه، وأبوه، أيْ النهب وما أنتجه من فساد وإفساد وقمع...
من وظائف الديمقراطية الأساسية حسب خصائص مجتمعاتنا إشراكُ المجتمع في صناعة القرار، أي انعكاس ما يجري في القاع الاجتماعي من خلال البنى السياسية، ودون ذلك ستتحول الممارسة الديمقراطية إلى مجرد صراع ومنافسة بين النخب والطغم المالية-العسكرية حول السلطة وحصص النهب لا أكثر ولا أقل... كما يجري في سورية، وكما يجري في العراق ولبنان، وتونس ومصر واليمن... كلُّ حسب خصائصها، ودون أن تلبّي الحاجات التي يفرضها الواقع الموضوعي، رغم أنها باتت ممهورةً بدم عشرات الآلاف من الشباب في سجون وساحات الجوع والتجويع من تونس إلى القاهرة إلى بغداد إلى صنعاء وطرابلس وبيروت ودمشق.
أضف إلى ذلك، فإنّ الديمقراطية التي لا تُفرِزُ نُخَباً تسعى إلى التنمية والتطوُّر المستقل، والاعتماد على القطاعات الإنتاجية، إلى جانب الحريات السياسية أيْ تأمين مستلزمات الكرامة الإنسانية بمعناها المادي والروحي، هي ديمقراطية مخاتلة، ومخادعة، ومشوّهة. وبعبارة أوضح، كلُّ مشروع ديمقراطي لا يعمل على الانفكاك من نظام التبعيّة في العلاقات الدولية، ولا يرفض تشبيح صندوق النقد الدولي، كما يرفض التشبيح المحلّي هو في أحسن حالاته مشروعٌ مصاب بالتشوه الولادي.
زِدْ على ذلك أنّ هذا النموذج من التحليل هو أحدُ استطالات «نظام التفاهة» حسب تعبير آلان دونو، ولكن بخصائصه الشرقية، في بنية الأكاديميا، التي تتقاطع مع قوى الفضاء السياسي القديم... فضاء التبعية، والقمع، والاستبداد، بما فيه فضاء التنظير المسلّع: الوظيفي لا المعرفي، الجزئي لا الشامل، الترقيعي لا الجذري، حتى ولو تمظهر بمستوى عالٍ من التثاقف، خصوصاً وأن هذه المقاربة تجادل في أقدس وأنبل ما أنتجته ديموغرافياً دول المنطقة في العقود الخمسة الأخيرة، أي الحركة الشعبية، ويقصم ظهرها ويجلدها بالسّوط المعرفي، بعد أنْ أشبعتها النخب الحاكمة جلداً واقعياً بقمعها السافر.
تعرّضت الحركة الشعبية المعاصرة إلى ضغطٍ مكثَّف من اتجاهين: اتجاه الأنظمة بمختلف تلاوينها ومسمّياتها من خلال القمع المباشر، وهو ما كان متوقَّعاً ومن المفروض أنه في قائمة حسابات الحركة، ومَن وقفَ معها منذ انطلاقتها، أمّا الاتجاه الآخر، فهو من حاول أنْ يَتَأسْتَذَ على هذه الحركة من نخب سياسية وفكرية، دون أنْ يفهمَ طبيعتَها، وعمقَها وشمولَها، ورأى فيها وسيلةً للوصول إلى السلطة، وتصفية حساباته مع الآخرين، فباعَها الأوهامَ وأغرقَها بالمال، مستفيداً من ضَعف تجربتها، حتى كان طرفاً مشاركاً مع الاتجاه الأول في إجهاض موجتِها الأولى، وعلى رأس هذه القوى كانت قوى التأسْلُم، ومن عَزفَ على أوتارها.