الأقنعة الأوروبية المتبدلة في الدبلوماسية تجاه الروسي
في اللحظات الأولى من التداول في هذا العام، ارتفع السعر اللحظي للغاز في أوروبا إلى 250 دولاراً لكل ألف متر مكعب. وجاء ذلك على خلفية تقلص تدفق الغاز من روسيا، وكذلك الغاز المسال عبر البحر، بسبب القيود الإلزامية الجديدة المفروضة على شركة "غازبروم"، في ممر نقل الغاز الأوكراني منذ العام الجديد.
ليست هذه الحادثة إلا غيضاً من فيض التآثر الذي تفرضه العلاقات الروسية- الأوروبية المتأرجحة في الفترات الأخيرة على إيقاع العلاقات الروسية الأميركية وبفضل الموجة الثانوية التي تتشكل عنها.
تكتسب العلاقات الروسية-الأوروبية الأهمية السياسية والاقتصادية والعسكرية من منطلق أن روسيا تعد الدولة الأولى في العالم من حيث المساحة ومن أكثر الدول إنتاجا للغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أنها قوة عسكرية هائلة في مواجهة القوة العسكرية الأمريكية. وتزداد أهمية روسيا أوروبياً بتعزز هذه العلاقات بين الطرفين الروسي والأوروبي. ويشكل هذا التقارب عمقا استراتيجيا متبادلاً، بمعنى أن روسيا تتحوّل إلى سند إقتصادي وعسكري قوي، بإمكانه أن يقلص من الهيمنة الأمريكية المستمرة منذ مشروع مارشال. بالمقابل، فإن روسيا ستحقق للدول الأوروبية سوقا كبيرة بالنسبة للاستثمارات الروسية المختلفة. تشكل روسيا باعتبارها دولة أوروبية عملاقة عمقا استراتيجيا هاما بالنسبة للإتحاد الأوروبي. بعيداً عن السياسات الأمريكية المهيمنة ذات النزعة الأحادية التي طبعت السياسة الأمريكية في العالم، خاصة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي. وتكرّست هذه الهيمنة أكثر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001
وأعربت الخارجية الروسية عن ثقتها في اكتمال تنفيذ مشروع الغاز «السيل الشمالي-2» - من روسيا إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق- على الرغم من الضغط الأمريكي على الأوروبيين، حيث تهدد واشنطن الشركات المشاركة بالعقوبات. في وقت تخطط فيه الولايات المتحدة لزيادة مبيعاتها من غازها الطبيعي المسال إلى أوروبا.
وإذا كان من توافق أو تناقض في مستوى محوري العلاقات فمما لا شك فيه أن تجلي التوافق في المحور الروسي الأوروبي تحتله إلى حد كبير العلاقات بين الدولتين الروسية والألمانية على سبيل المثال، في حين يتجلى التناقض في الخطاب الرسمي الأوروبي الذي يمثله الاتحاد الأوروبي كمؤسسة تظهر ولاء أكبر للولايات المتحدة مما تظهره أي من مكوناتها كدول منفردة (وخاصة الكبيرة منها).
ففي حين رفض المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، الانتقادات الموجهة لخط نقل الغاز «السيل الشمالي-2»، وأكد أن الهجمات على روسيا لا تتوافق مع آراء الأغلبية في ألمانيا. قائلاً: «إلى أين سنصل، إذا بدأت السياسة الأمريكية، تحدد كيف يجب علينا تطبيق سياسة الطاقة؟». مشدداً على أنه يجب على الغرب أن يرى في روسيا الشريك الهام في الاقتصاد والسياسة، وليس الخصم اللدود.
فيما اعتبر وزير الشؤون الأوروبية في الخارجية الألمانية مايكل روث، أنه يجب على الاتحاد الأوروبي، إجراء حوار مع روسيا، وألا يحاول عزل نفسه عنها، رغم كل الخلافات.
وصرح وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في وقت سابق بأن الاتحاد الأوروبي جاهز للحوار مع روسيا، مضيفا أنه حان الوقت لعودة روسيا للحوار.
وقال ماس في بروكسل: "إننا جاهزون للحوار. وحان الوقت لعودة موسكو للحوار".
فيما تخرج انتقادات لموقف الاتحاد الأوربي من فرنسا حيث انتقد المشرع الفرنسي في البرلمان الأوروبي، نيكولا باي، بشدة ما وصفه بـ «سخافة موقف الاتحاد الأوروبي إزاء روسيا»، وشدد على أن الاتحاد نفسه بالدرجة الأولى يعاني من عواقب الإجراءات العقابية.
وفي نفس الاتجاه قال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو، إن الذنب في تفكيك النظام الأمني في أوروبا، يقع على عاتق الناتو الذي قام من خلال موجتي توسع بتقريب منشآته العسكرية من حدود روسي، ونوه بأن هذه التصرفات تطلبت من روسيا الرد عليها.
أما حول الدور البريطاني الموالي للولايات المتحدة بشكل علني فقد اتهم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بريطانيا بأنها تعلب «دوراً تخريبياً» في العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي.
على صعيد الخطاب الرسمي دعا البرلمان الأوروبي، إلى وقف تنفيذ مشروع أنابيب نقل الغاز الروسي: «البرلمان الأوروبي يصرّ على أنّ الاتحاد الأوروبي يجب أن يقلّل اعتمادَه في مجال الطاقة على روسيا ويدعو مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء إلى وقف استكمال خط أنابيب السيل الشمالي-2».
فيما يقرّ الاتحاد الأوروبي ممثلاً بجوزيب بوريل بعجزه عن إعاقة «السيل الشمالي-2» أو التحكم بـ«سويفت»
قائلاً: أنّ مؤسسات الاتحاد الأوروبي «لديها وسائل محدودة للضغط على روسيا».
فيما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأن روسيا مستعدة لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي رداً على عقوبات جديدة محتملة، وأكد على أن «المشكلة الرئيسية تكمن في انعدام الأجواء الطبيعية في العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي».
وبعدها عاد بوريل ليعلن أن دول الاتحاد سوف تبحث إمكانية فرض عقوبات جديدة على روسيا، في نوع من تغير غير مفهوم في سلوك المؤسسة الرسمية الأوروبية يبدو أن الأمريكان يدفعونه بشكل متعمد.
وكانت الولايات المتحدة قد فرضت في 21 أيار عقوبات على 13 سفينة و3 مؤسسات روسية مشاركة في بناء "السيل الشمالي-2". فيما أكد وزير الخارجية الأمريكي في 19 أيار أن واشنطن تخلت عن فرض عقوبات على شركة "Nord Stream 2 AG" التي تعد مشغلة لمشروع "السيل الشمالي-2". وأوضح بليكن أن هذا القرار يتفق مع المصالح الوطنية الأمريكية.
تمر العلاقات الروسية- الأوروبية حالياً بواحدة من أسوأ مراحلها، إلّا أنها ليست المرة الأولى، وقد لن تكون الأخيرة وسط تذبذب الاتحاد الأوروبي بمواقفه وسلوكه، وأزماته، وأزمات كل دولة عضو فيه على حدة.
هذا وكانت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في أوروربا تسعى عموماً إلى تحقيق هدفين هما الاستمرار في تفتيت روسيا وتشجيع استقلال دول القوقاز من جهة وضمان تواجد عسكري أمريكي في آسيا الوسطى، وكذلك السعي لإفشال أية محاولة تقارب بين أوروبا وروسيا. لكن هذه الاستراتيجية لم تحقق نتائجها المرجوة منها بعد عودة روسيا إلى الساحة الدولية من خلال تعزيز علاقاتها مع جيرانها ولا سيما إيران والصين بالاضافة إلى تكثيف علاقاتها الاقتصادية مع اوروبا بالنظر لمركزها كمصدر رئيس للنفط والغاز.
في الوقت ذاته ومع تغير الأدوار في حلف الأطلسي وفي أوروبا لم تعد ألمانيا تستمر بالقبول بدور ثانوي مما يعزز تضاؤل الاعتماد الألماني على الولايات المتحدة لصالح تمتين العلاقات الألمانية –الروسية، وهو ما تخشاه فرنسا ويدفعها إلى أن تكون طرفاً في هذا التقارب الذي تتقاطع فيه المصالح الفرنسية –الألمانية مع روسيا.
فيما تتخوف الولايات المتحدة من قيام وحدة سياسية أوروبية قادرة على تعزيز التقارب والوفاق السياسي بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على غرار العلاقات الاقتصادية القائمة على المحروقات وبالتالي فإن واشنطن تسعى من خلال بريطانيا إلى تقويض هذا التفاهم من خلال العمل على جبهتين، الجبهة الأولى: هي الحفاظ على موقف معاد لروسيا في المؤسسة الأوروبية الرسمية قدر الإمكان، والجبهة الثانية: تفتيت الاتحاد الأوروبي كجبهة واحدة من خلال التأثير على الدول الموالية لها ضمن الاتحاد الأوروبي، والتي تأتمر بأمرها عند اللزوم، كما جرى في حوادث طرد الدبلوماسيين التي كان مفعول الدومينو فيها بضربة أمريكية اولى.