تركيا والسعودية وصافرة البداية
اختُتِمَ اللقاءُ التركي-السعودي الأول بعد قطيعةٍ استمرّت سنوات، وعلى الرغم من أنّ بوادرَ حلحلة الملفات العالقة لَم تتّضح بعد، إذْ إنّ وَضع العلاقات بين تركيا والمملكة السعودية على سكّة المفاوضات أخيراً قد يحمل تغييرات كبرى إلى المنطقة، وفي ملفاتها الكبيرة العالقة.
مع انتهاء زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى العاصمة السعودية الرياض، عادت إلى الأذهان القائمة الطويلة للخلافات التركية-السعودية، وتكمن في هذه النقطة تحديداً أهمية هذه المفاوضات، فالخلافات بين البلدين تشمل منطقة الشرق الأدنى والعالم الإسلامي الذي تتنافس الدولتان على شَغْل المركز الأبرز فيه. أي أنّ انطلاقَ المفاوضات رغم كلّ هذه الخلافات يشكّل طاقةَ أملٍ لم تعد نتائجُها بعيدة.
المشكلات أوراق للتفاوض
لا شكَّ أنّ أنقرة تجدُ نفسَها مضطرَّة لفتح نوافذَ أغلقتْها هي نفسُها في الماضي، لكنَّ أيَّ متابعٍ للسلوك التركي يلحظ «النشاط» و«الفاعلية» الكبيرة التي اعتمدتها تركيا في سياستها الخارجية، فلتركيا «قرصٌ في كلِّ عرس» كما يقال، وهذا ما يدفع البعض للتخوف من أنّ سلوك تركيا هذا لا يمكن تفسيرُه إلا من باب «العثمانية الجديدة»، ليتضح اليوم أنّ تركيا والتي صعدت واستفزَّت جيرانها في وقت قريب، تُظهِر اليوم مرونةً عالية في جملةٍ من القضايا. فتركيا تنجز استدارةً حسّاسة تُغيِّر فيها الأصدقاء والأعداء ولا تزال خطوط الفصل مبهمةً بعض الشيء. ونحن نرى بوضوح تدخُّل تركيا في معظم ملفّات المنطقة، والذي أدخلَها في مناكفاتٍ وصلت إلى شكلها العسكري في بعض الأحيان، فنرى بصماتٍ تركيّةً من أوكرانيا إلى السودان، لكنَّ هذه الخيوط الكثيرة التي تحاول تركيا إمساكها إنما تُوضَع اليوم على طاولاتِ مفاوضاتٍ متعدِّد، مما يحسِّن موقعَ تركيا في هذه المفاوضات لكنّه لا يمكِّنها من الهيمنة. فتركيا حملتْ معها إلى الرياض (وإلى مصر من قبلها) جملةً من الملفات التي باتت اليوم أوراقاً للتفاوض. هذا لا يعني بالطبع أن تركيا مستعدةٌ إلى رميها جميعاً، لكن هذا يعني أنّها تدرك أنّها ستتخلّى عن عددٍ منها، وبدأت بالفعل بإرسال تطميناتٍ حقيقية للرياض، وكان على رأسها قضيةُ جمال خاشقجي، والذي قُتل داخل السفارة السعودية في تركيا، التي استغلّت قيادتُها السياسية هذه الحادثة بشكلٍ واضح للضغط على الرياض في عددٍ من المناسبات، لكنّ تصريحاتٍ ملفتةً للناطق الرسمي باسم الرئيس التركي، والتي سبقت الزيارة المقررة، قال فيها إبراهيم قالين «إنّ السعودية أجْرَتْ محاكماتٍ بقضية خاشقجي واتّخذَتْ قراراً ونحن نحترمُ ذلك (...) لدى السعودية محكمة أجرت محاكمات واتخذوا قراراً وبالتالي فنحن نحترم ذلك القرار».
لا نتائج حتى اللحظة
يتضح من جملة إجراءات سعودية ومِن التصريحات الرسمية التي أعقَبتْ هذه الزيارة أنّ العلاقات المتكلّسة بين البلدين لم تشهد انفراجةً حقيقيةً بعد، وهذا طبيعيّ فالمشكلة أكبر بكثير من جمال خاجقشي وأكبر من قضية الإخوان المسلمين وتأمين تركيا غطاءً إعلامياً وسياسياً لهم، فالخلاف التركي-السعودي في جوهره هو خلافٌ تاريخيّ على النفوذ في منطقةٍ واسعة، وهذا تحديداً ما لن تتنازلً عنه الرياض أو أنقرة، لكنّ حلَّ هذه القضايا يبدو ممكناً، وتحديداً إذا ما أُخِذَتْ بعين الاعتبار كلُّ إمكانيّات التعاون بين هذه القوى الإقليمية المجتمعة ونقصدُ تحديداً إيران وتركيا والسعودية ومصر. فانعقاد مجموعةٍ من المفاوضات بشكلٍ متزامن (سعودية-إيرانية وسعودية-تركية من جهة، وتركية-مصرية من جهة أخرى) يعني أنّه بات هناك قرارٌ إقليميّ بإعطاء فرصةٍ للمفاوضات والحلول السلمية القائمة على التكامل، وصحيحٌ أنّ هذه المفاوضات تجري على «خزّان بارود» إلا أنها تَلقى من جهة أخرى غطاءً سياسياً روسياً صينياً يسمح لها بالاستمرار.
بالعودة إلى ملفّ العلاقات التركية-السعودية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الجولة والتي اختُتِمَتْ في الرياض مساءَ يوم الثلاثاء 11 أيار الجاري، ليست الجولةَ الأخيرة، والقائمةُ الطويلة التي سيبحثها البلدان ستشمل العملَ ضمن منظمة التعاون الإسلامي ممّا سيفتح الباب واسعاً على توزيعٍ للنفوذ ضمن المنظَّمة، أيْ استعباد محاولات كسرها، بالإضافة إلى بحث ملفاتٍ حسّاسة مثل سورية والعراق. تركيا لم تدخل فارغة اليدين في هذه المفاوضات فأنقرة نجحت في السنوات الماضية في بناء قاعدةٍ عسكرية في الخليج، وتُمْسِكُ بيدها خيوطاً كثيرة. وهذا هو حال السعودية أيضاً والتي استطاعت فرضَ نوعٍ من العُزلة على تركيا في العالم العربي والإسلامي.
تركيا والسعودية تشتركان في مشكلةٍ واحدة وهي أنّهما كِلْتاهُما مضطرَّتان لإنجاز خطواتٍ سريعة ستنتجُ عنها تغيّراتٌ كبرى في السياسة الخارجية، فالتغيّرات السريعة في توازنات القوى في المنطقة لا تحتمل بَطيْئِي الفهم والحركة، ولعبُ دورٍ فعالٍ في المنطقة مرهونٌ بقدرة السعودية وتركيا على فهم الظرف الجديد بسرعة والتأقلم معه وإلا ستكون التكاليف باهظةً جداً، وإنْ كانت مبرِّراتُ السلوك السابق للبلدين هي «المصالح الوطنية»، فإنّ هذه المصالح بالتحديد هي من يَفرضُ إنجاز تطبيع العلاقات بأسرعِ وقتٍ ممكن عبر إيجاد توافقٍ مبدَئيّ على كافة النقاط الخلافية، وعلى الرغم من أنّ لا نتائجَ ملموسة بَعْد، لكنّ المؤشرات تدلُّ أنَّ إرادةً جديدة موجودةٌ لإيجاد المخارج.