مظاهراتُ الجزائر تَصَلُ الجمعة 116 ومطالبـُها الملحّة لم تُنجَز بعد
تتواصل الاحتجاجات الشعبية في الجزائر للجمعة رقم 116 (التي وافقت 7 أيار)، منذ الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة قبل عامين، ويشارك عشرات الآلاف بمسيرات في الشوارع منذ آذار 2019، والتي توقفت مؤقتاً بسبب جائحة كورونا أوائل 2020، لكنها استُئنِفَت باكراً في 2021 رافعةً مطالب التغيير السياسي والاقتصادي والديمقراطي. يرصد التقرير التالي أبرز أسباب هذه الاستمرارية، ولا سيّما المطالب الاقتصادية-الاجتماعية المتراكمة التي ما زالت السلطاتُ فاشلةً في تلبيتها، بل وفَرَضَتْ مُؤَخَّراً قيوداً أمنيةً جديدة على المظاهرات تُنذِر بمزيد من القمع المُمَنهَج.
ملايين الفقراء و15% بطالة
تشير بعض التقديرات إلى أنّ البطالة في الجزائر وصلت 15%، ووفقاً لأحزاب ونقابات جزائرية فاقت البطالة، إثر الجائحة، المليون مُعَطَّل، بينما تشير الحكومة إلى 500 ألف. وتآكلت رواتب موظفي القطاع العام الذين يشكّلون نحو 3 ملايين شخص.
وتؤكِّد عدة نقابات تضاؤلَ القدرة الشرائية للجزائريين في الأشهر الماضية إلى ما دون كفاية مستلزمات الغذاء، ويشهد سعر صرف العملة الوطنية (الدينار الجزائري) تراجعاً أمام العملات الأجنبية، فأضحى 1 يورو يفوق 150 ديناراً في السوق الرسمية، و210 دنانير في السوق السوداء.
رواتب «الطبقة المتوسطة» هي بين 30 – 60 ألف دينار (200 – 400 دولار)، وأدنى من ذلك بكثير للفئات الأوسع. والحد الأدنى للأجور 20 ألف دينار، بينما ذكر مسعود بوديبة الناطق الرسمي لـ«المجلس الوطني المستقل لأسلاك التربية»، أنّ دراسات النقابات تشير اليوم إلى وجوب ألّا يقلّ الحد الأدنى للعيش عن 80 ألف دينار شهرياً (600 دولار). وبينما يتقاضى بعض الموظفين أكثر من 20 مرة الحد الأدنى، تتراوح أجور الأغلبية الساحقة من العمال بين 2 إلى 3 مرات الحد الأدنى فقط.
والتهبت أسعار الغذائيات، ولا سيّما في رمضان: الطماطم وصلت 200 دينار جزائري/كغ، أو 1 يورو، والبطاطا 100 دينار/كغ، خفّضته السلطات إلى 80 دينار بإخراجها مئات الأطنان المخزونة. اللحوم باهظة (الدجاج 400 دينار/كغ، اللحوم الحمراء بين 1500 إلى 2000 دينار، والأسماك وصلت 5000 دينار لبعض الأنواع المطلوبة في رمضان مثل الجمبري). هذا فضلاً عن ندرة بضائع كالزيت، والطوابير الطويلة لشراء الحليب المدعّم (بسعر 25 ديناراً).
احتجاجات عمّالية ونقابية
خرجت عدة نقابات منددةً بالوضع وداعيةً لإضرابات مفتوحة. وربطت الحكومةُ وإعلامُها تصعيدَ الاحتجاجات بالانتخابات البرلمانية المقرّرة في 12 حزيران المقبل، وتحدَّثت عن «إرادةٍ للتشويش على المسار الانتخابي»، فوضعت قوانين صارمة لمواجهة أيّ «عرقلة للعملية الانتخابية»، أو «تعكير صفوها»، كما جاء في بيان حكومي، حيث ستصل العقوبة إلى 20 سنة سجناً نافذاً. وصرّح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في اجتماع مجلس الوزراء (2 أيار ) بأنه «لا يجب الانسياق وراء ما تسوِّق له بعض الحركات المضلِّلة التي لا تريد إلا تعفين الأوضاع واستغلال ظروفهم المهنية والاجتماعية لأغراض مشبوهة» حسب تعبيره.
يتركز أكبر عدد من موظَّفي القطاع العام في قطاع التعليم، وقرّرت 14 نقابة تنظيمَ إضرابٍ شامل بين 9 و11 أيار الجاري، فسارعت وزارة التعليم لمحاولة احتوائه دون جدوى حتى الآن. ويقول نقابيّون إنّ لديهم مطالبَ عالقةً طيلة سنوات، مثل ملفّ «القانون الأساسي» وملفّ الأجور، وكلاهما لم يُفتَحا منذ 2008.
ولكن يبدو أنّ مواقف «الاتحاد العام للعمال الجزائريين» يُحابي السلطات، إذْ دعا أمينُه العام، سليم لباطشة، إلى عدم الانصياع لـ«النداءات المجهولة» التي تدعو للاحتجاج، الأمر الذي انتقدَه زوبير روينة، الأمين العام لنقابة «مجلس أساتذة الثانويات»، معتبراً تصريحات لباطشة «سابقة خطيرة في تاريخ النضال النقابي» وأنّ على الاتحاد العام «تبنّي الإضراب والبحث في دوافع هذه الاحتجاجات بدلاً من تشويهها»، ورأى روينة في توقيت إضرابات المعلّمين قُبَيل الانتخابات أمراً فرضَتْه معاناة العُمَّال من أجل تلبية مطالبهم المستعجَلة لحِفظ كرامَتهم في الظروف المعيشية الصعبة.
كذلك انتفضَ عُمَّالُ البريد احتجاجاً على ظروف العمل الصعبة والرواتب الزهيدة، مما أطاح بوزير البريد الذي لم يستوعب غضبَهم بل زادتْهم قراراتُه احتقاناً.
أما أكثرُ الاحتجاجات إثارةً للجدل، فكانت الحركةَ الفجائية لعمّال الدفاع المدني، الذين يُعرَفون رسمياً في الجزائر بـ«أعوان الحماية المدنية»، إذْ نَظّموا مسيرةً في قلب العاصمة مُرْتَدِين زِيَّ عملِهم الرَّسمي، وغيرَ بعيدٍ عن مَقَرِّ الرئاسة، احتجاجاً على سوء أوضاعهم الاجتماعية وللمطالبة بإطلاق سراح رفيقٍ لهم أُوقِفَ في اليوم نفسِه دون أنْ تُوضِّحَ السلطات أسباب توقيفه.
ويشتكي رجالُ الإطفاء مِن أنّ راتبَهم الأساسيّ لا يتجاوزُ 15 ألف دينار، في حين أنّ «الأجر الوطني الأدنى المضمون» هو 20 ألف دينار (ما يزيد قليلاً عن 125 يورو) منذ عام 2020. ويرى اتحاد النقابات العمالية الجزائرية أنّ الحد الأدنى اللائق للأجور يجب أنْ يصل إلى 4 أضعاف ذلك. كما يشتكي الإطفائيّون من العمل 80 ساعة أسبوعياً، وهو ضِعف المدة القانونية المحدَّدة بـ 40 ساعة. وتصدّت الشرطة لمسيرتهم بالعنف والضَّرب والغاز المُسيل للدموع، وأعلنت الداخلية توقيف 230 إطفائياً عن العمل مع ملاحقتهم قضائياً لمشاركتهم في المظاهرة التي اعتبرتْها «مخالفةً للقانون»، كما اعتبرت الحركة الاحتجاجية «مُفتعلة» و«مدفوعة من أطراف عِدّة لها حِقدٌ على الجزائر وبأجندات مغرضة»، وقالت بأنّ التوقيف هو «مرحلة أولى» واتّهمتهم بانتهاك «الوضع الخاص» للموظَّفين المنتمين إلى هيئات محدَّدة تتعلَّق بالحماية المدنية التي تُعَدُّ تابعةً لوزارة الداخلية، وعُرِفَ عن أفرادها انضباطُهم الشديد وابتعادُهم عن مِثل هذه الاحتجاجات، مما استنَفر السُّلطة وجَعل ردّة فعلها بهذا الشكل.
قيود جديدة تنذر بتشديد القمع
أصدرت وزارةُ الداخلية الجزائرية بياناً رسمياً الأحد 9 أيار الجاري، فرضت بموجبه قيوداً جديدةً على الاحتجاجات والمظاهرات في خطوةٍ تبدو محاولةً رسمية لحظرها. واشترطت الداخلية في بيانها على منظِّمي المظاهرة إعلاناً مُسبقاً عن أسماء المسؤولين عن تنظيمها وتحديدَ نقطةِ بدايتها ونهايتها ومسارها والشعارات التي سترفع فيها، وشدّد البيانُ على أنّ عدمَ الامتثال لهذه الإجراءات يمثِّلُ «انتهاكاً للقانون والدستور» و«ينزع عن المسيرة شرعيتها وعندها يكون من الضروري التعاملُ معها على هذا الأساس» – أيْ قمعها.
موقف الجيش وبعض الأحزاب
ذهبت مجلة «الجيش» – لسان حال الجيش الجزائري – في افتتاحيتها بداية الشهر الجاري، إلى منحىً خطير بتخوينها للإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية، فكتبتْ أنّ «أطرافاً تخريبية تواصل عملياتها الإجرامية والاستفزازية من خلال تحريض عمّال وموظّفي بعض القطاعات على شنّ إضرابات»، وأضافت: «إنّ هذه الإضرابات ظاهِرُها المطالبةُ بالحقوق وباطنُها إفشالُ الانتخابات التشريعية المقبلة وبالتالي إدخالُ البلاد في متاهاتٍ هي في غِنىً عنها». في حين لَم يطرح الجيشُ مثلاً خياراً مِن قَبِيل مُرافقةِ الاحتجاجات الشعبية وحمايتِها من الجهات التي يحذّر منها ويخشى من «اندساسها» فيها.
يرى «حزب العمّال» المُقاطِع للانتخابات، في الاحتجاجات ردّةَ فِعل مباشرة على الضِّيق الاجتماعي الذي يَمسُّ الأغلبية الساحقة من العمال وعائلاتهم نتيجة سياسات الحكومات المتعاقبة، واستغربَ رمضان تعزيبت، القياديّ في هذا الحزب، منطقَ الحكومة مؤكداً أنّ العمّال وطنيّون حتى النخاع ومشكلاتهم اليوم معروفة منذ سنوات، وأصبحت لا تطاق جرّاء البطالة المنتشرة والرواتب غير المدفوعة والتسريح وانهيار القدرة الشرائية والزيادة الجنونية للأسعار، وتصفية المؤسسات الاقتصادية.
وقال عبد الرزاق مقري، رئيس حزب «حركة مجتمع السلم» المشارك في الانتخابات، إنّ حزبَه يرفضُ منطقَ اتهام العمّال بـ«السير وراء أجنداتٍ أجنبية»، ويتفهَّم توقيتَ تحرُّكِ النقابات قبل أيامٍ من الانتخابات حتى يحسِّنوا موقعَهم التفاوضيّ.
انقسام حول الانتخابات وتوقعات بإفلاس مالي
في مطلع آذار الماضي، أصدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مرسومَ حَلِّ المجلس الشعبي الوطني والدعوةَ لانتخاباتٍ نيابيةٍ مبكرة. وانتقد القيادي في حركة «رشاد» الجزائرية المعارضة الديبلوماسي السابق، محمد العربي زيتوت، استمرار النظام بـ«سياسة الهروب إلى الأمام» وشيطنة الحراك. وحذّر مِن أنَّ النظام القائم في الجزائر اليوم يقود البلاد إلى «كوارث مخيفة»، مشيراً إلى توقعات «وكالة بلومبيرغ بأنْ يتبقَّى في خزينة الجزائر مع نهاية العام الجاري 12 مليار دولار فقط، مما ينذر بإفلاس ماليّ».
وأشار زيتوت لوجود «صراعات متأجّجة داخل أجنحة الحكم»، وأنّ الانتخابات هي «لتثبيت نظام الحكم» ولفتَ إلى شعاراتٍ في الحراك رافضةٍ للانتخابات وأنّ منطقةَ القبائل أَعلنتْ مسبقاً مقاطعتَها لها، وأنّ نتائجَها «معروفةٌ سلفاً»، لافتاً إلى أنّ هذه الاعتراضات الداخلية على الانتخابات تأتي «في ظِلّ استعداداتٍ حثيثة لإرسال الجيش الوطني الشعبي إلى أفريقيا بطلبٍ استعماريّ، وكلُّ ذلك يزيدُ مِن المخاوف على مصير وأمْنِ واستقرار الجزائر».