أثر الفراشة والنظام العالمي الجديد
أولاً كانت أفغانستان، ثمّ العراق، وسورية، والآن يجب أن تبقي أوكرانيا الروس مشغولين ومتوترين. كلّ هذا يجري أثناء تركيز واشنطن على عزل الصين. ولأنّ الوقت لم يسعف الأمريكيين لمدّ حروبهم إلى إيران أو إشعالها بالفوضى، يجب عليهم اليوم محاولة إبعادها عن روسيا والصين. يعني أثر الفراشة أنّ الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون لها تأثيرات غير مباشرة على النظام المعقد. فرغم أنّه من غير المرجح لرفرفة جناح فراشة أن تخلق إعصار، إلّا أنّها كحدث صغير، ستخلق تسلسل أحداث صغيرة تؤدي لتغيير إعصاري.
الذي يحكم التحركات الأمريكية في العالم، وفي أوراسيا تحديداً، هو الحكمة القديمة نفسها: يجب ألّا يُسمح أبداً للإقليم بالتوحّد. يجب الفصل بين روسيا والصين «وإيران»، وتقسيمها عبر «التثليث»، كما اعتاد هنري كيسنجر أن يقول.
لكنّ رفرفة الأمريكيين بجناحي الفراشة قد يعمّق أولاً الخلافات الداخلية الأمريكية التي وصلت بالفعل لمستوى غير مسبوق، وثانياً: لن تسمح إيران بأن يتم جرّها إلى مفاوضات مطولة حول الاتفاق النووي، الأمر الذي سيعني أنّ على الولايات المتحدة أن تحدد مساراً واضحاً هي على الأرجح ليست قادرة على السير فيه إلى النهاية، أياً كان.
محور روسيا-إيران-الصين، لسوء حظّ الأمريكيين، متشابك بشكل أعقد من تخريبه وتهديده. إيران بحاجة إلى الروس للحصول على السلاح المتطور ولعصرنة ترسانتها من الأسلحة، وهي بحاجة للاستثمار والتنمية الصينية، وخاصة بعد توقيعها معها لاتفاقية طويلة الأمد تمتد لـ 25 عام. وحتّى الخصوم التقليديين أبدوا قدرة على تخطي خلافاتهم، مثالهم التصريحات الإيجابية للسعودية والرسائل الودية مع إيران.
الضغط الأمريكي في تايوان لإشغال الصين، وفي أوكرانيا لإشغال الروس، يدفع بالبلدين للتعاون أكثر. الأمر الذي يعني ضربات مستمرّة للنظام العالمي الأمريكي من جهة، وإضعافاً لقدرات الأمريكيين المتراجعة عموماً.
ما دور «فراشة» الأوربيين هنا؟
الأوربيون يرفرفون اليوم بجناح الفراشة دون أن يدركوا مدى خطورة الأمر عليهم. مثال حزب الخضر في ألمانيا، الدولة الأوربية الأهم، والذي يعدّ المنافس الرئيس في مرحلة ما بعد ميركل. بعد أن كان منذ مدّة ليست بالطويلة «معادياً كلاسيكياً للنظام»، تحوّل بشكل جوهري إلى مؤّيد لليبرالية وللناتو ومناهضاً لروسيا. والمثال الأكبر هو مواقف بروكسل، معقل الاتحاد الأوربي، التي صوّت فيها البرلمان الأوربي بنسبة 569 صوت موافق، و67 صوت معارض، لقرار عدواني ضدّ روسيا ينص على أنّ الاتحاد الأوربي «في حال هددت روسيا من جديد سيادة أوكرانيا يجب على أوروبا أن توقف واردات الاتحاد الأوربي من الغاز والنفط من روسيا، وأن تستبعد روسيا من نظام مدفوعات سويفت، وأنّ تجمّد أصولها وتلغي فيز الدخول إلى أوروبا «لجميع الأوليغارشية المرتبطة بالسلطات الروسية».
يُظهر هذا أنّ هناك قوى سياسية لا يستهان بها في أوروبا ممّن ترغب بتطبيق أجندة الأمريكيين، وممّن تمهّد الأرض للناتو للتدخل بشكل أو بآخر، رغم أنّ الروس كانوا واضحين بشأن خطوطهم الحمراء واستعدادهم للدفاع عنها.
رفرفة الأوربيين قد تؤدي لإعصار سيِّئ لهم لعدّة أسباب، ربّما من أهمّها أنّ أيّ تصعيد عسكري سيكون مدمراً لهم، وخاصة دول أوربا الشرقية الصغيرة التي تلعب باستمرار دور «ذيل» السياسات الأمريكية.
لكن الأهم والذي لا يجب أن ننساه عند دراسة أيّ فعل وتحرّك أوربي، أنّ المخاطرة الأوربية كبيرة أيضاً لأنّ أوروبا بحاجة، بكل بساطة، للغاز الروسي. من جهة ثانية، تحتاج أوروبا إلى الاستثمارات الصينية، والمعاملة التفضيلية الممنوحة لهم في الصين. العلاقات الوديّة مع روسيا والصين ضروريّة لأوروبا إن لم تُرد أن يهوي اقتصادها في ركود طويل.
علينا ربّما أن نراقب وننتظر رفرفة جناحي الفراشة بالاتجاهات المعاكسة لندرك جهة الإعصار القادم.