السوفييت سجلوا سابقة برفض دفع الديون الغربية
في شباط 1918، تسبب رفض الحكومة السوفييتية لدفع الديون القيصرية بصدمة للتمويل الدولي، وأثار حنق وغضب حكومات القوى العظمى. كان هذا القرار جزءاً من نهج حكومة أتت على خلفية انتفاضة أسقطت القيصرية ووضعت نصب عينيها منح السلطة للشعب.
بقلم: إيريك توسان
ترجمة وإعداد: قاسيون
الجذور
يعود هذا الأمر في جذوره إلى بيان «سوفييت بتروغراد» في 2 كانون الأول 1905 الذي أعلن بوضوح بأنّ الحكم القيصري لا يمثّل الشعب ولم يحز على ثقته، وبأنّ الحكومة استخدمت الأموال للحرب وأفقرت الناس، وأعطت الدائنين وملّاك الأرض أموال الشعب. ولهذا فالشعب قرر عدم السماح بدفع القروض التي عقدتها الحكومة القيصرية. وأنّه بعد الإطاحة بالحكم المطلق سيتم إيقاف هذا التخريب المالي، وسيُجرى تحقيق في الشؤون المالية للدولة. وأنّ الخوف من السيطرة الشعبية التي من شأنها أن تكشف للعالم كله عن إفلاس الحكومة المالي يجبرها على الاستمرار في تأجيل جمعية تمثيل الشعب.
ولكنّ المصارف الغربية لم تلق بالاً لهذا الإعلان، بدلالة أنّ «البورصة الفرنسيّة French Bours» قررت بعد بضعة أشهر منح الحكومة القيصرية قرضاً جديداً بقيمة 3/4 مليون فرنك. مع ملاحظة أنّ «المستثمرين» الفرنسيين كانوا يملكون عشية الحرب العالمية الأولى 80% من الدين الخارجي الروسي.
بعد الثورة
عندما اندلعت الانتفاضة الروسية في شباط 1917، أراد الناس التخلص من الحكم المطلق. أرادوا الخبز وإنهاء الحرب والحصول على الأرض التي أخُذ ملايين الفلاحين منها للقتال في حرب لا تعنيهم بشيء.
لكنّ حكومة كيرنيسكي التي خلفت القيصر رفضت تسليم الأرض للفلاحين وأرادت الاستمرار بالحرب ولم تطعم الشعب. كما تعهّدت بدفع الديون التي عقدها القيصر للدائنين الخارجيين وعقدت قروضاً جديدة للاستمرار في الحرب. انطلقت ثورة أكتوبر على إثر ذلك وسيطر العمّال على المصانع من أجل إيقاف التخريب الرأسمالي، وبدأ الفلاحون بالاستيلاء على الملكيّات الكبيرة.
ثمّ جاءت الحكومة الجديدة المدعومة من مؤتمر السوفييتات وتعهدت باستعادة السلام وتوزيع الأرض وإحياء اقتصاد البلاد. وكذلك إلغاء الديون وتأميم القطاع المصرفي.
في كانون الأول 1918 علّقت الحكومة السوفييتية دفع الديون الخارجية، وفي شباط أصدرت مرسوماً بإلغاء كافة الديون القيصرية والديون التي عقدتها الحكومة المؤقتة السابقة. كانت قيمة الديون الروسية العامة 930 مليون باوند إسترليني «قرابة 50% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد» في عام 1913. ثمّ ما بين بداية الحرب ووصول البلاشفة إلى السلطة، ازدادت الديون لتصل إلى 3385 مليون باوند، أي حوالي 3.5 ضعف ما كانت عليه.
أراد السوفييت عقد السلام مع الشرق والغرب دون استثناء. ولكن بعد رفض الحلفاء مبادرات السلام السوفييتية مع ألمانيا، اضطرّوا لعقد اتفاق منفرد. تمّ توقيع معاهدة بريست-ليتوفسك مع برلين، لكنّ الإمبراطورية الألمانية بقيت مستولية على قسم كبير من الأراضي القيصرية الروسية: جزء من دول البلطيق وجزء من بولندا وأوكرانيا. باختصار: حرمت المعاهدة روسيا الجديدة من 26% من سكانها، و27% من أراضيها الصالحة للزراعة، و75% من إنتاج الحديد والصلب فيها.
حرب الحلفاء ضدّ السوفييت
دعوة الحكومة السوفييتية للثورة العالمية ورغبتها بإنهاء الحروب وسياستها في التأميم وتوزيع الأراضي على الفلاحين، علاوة على رفضها دفع الديون المملوكة لنخب القوى العظمى، دفع بالقادة الغربيين إلى إطلاق هجوم مكثف ضدّ روسيا السوفييتية بهدف إسقاط الحكومة الثورية واستعادة النظام الرأسمالي.
بدأ الهجوم في صيف 1918 بإرسال 14 دولة قواتها لمساندة الجيش الأبيض الذي قاده ضباط القيصر المخلوع: فرنسا 12 ألف جندي وبريطانيا 40 ألف واليابان 70 ألف والولايات المتحدة 13 ألف وبولندا 12 ألف واليونان 23 ألف وكندا 5300. ووفقاً لوزير الحرب البريطاني تشرشل كان هناك 180 ألف جندي أجنبي من الحلفاء.
الحكومة الفرنسية كانت الأكثر عدوانية ضدّ روسيا السوفييتية لسببين: الأول خوفها من انتشار الحركة الثورية إلى فرنسا، لأنّ الفرنسيين عارضوا بشدّة دخول الحرب، وثانياً لأنّ قرار رفض دفع الديون أثّر في الرأسماليين الفرنسيين أكثر من أيّ أحد آخر. وحتّى في 1917، وكما ذكر لويد جورج في مذكراته، حاولت الحكومة الفرنسية عقد سلام مع الإمبراطورية الألمانية لتقوم كلتاهما بالهجوم على روسيا، ولكنّها لم تنجح.
وحتى في 1919 عندما بدأ الحلفاء بنقاش إرسال القوات النظامية لاحتلال روسيا، كان رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج واضحاً عندما قال: «إن أرسلت ألف جندي بريطاني إلى روسيا الآن لهذا الغرض سيتمرد الجيش... وإن بدأنا مشروعاً عسكرياً ضدّ البلاشفة، سيؤدي هذا لتحويل إنكلترا إلى بلشفيّة وسنرى سوفييتاً في لندن».
لكنّ لويد جورج لم يكن يتكلّم بتنبؤ فقط، فالتمردات الخطيرة في بداية 1919 في الأسطول الفرنسي والوحدات العسكرية التي نزلت في أوديسا وبقية موانئ البحر الأسود كانت من الخطورة بحيث أدّت لسحب كامل القوات في نيسان. وفي آذار من العام نفسه رفضت فرقة مشاة بريطانية إطاعة الأوامر والذهاب إلى الجبهة. وبعد وقت قصير رفضت فرقة أمريكية إطاعة الأوامر والعودة لأداء الواجب في الجبهة.
لهذا حاولت القوى الغربية إطالة أمد الحرب الأهلية الروسية الدامية والمدمرة لأبعد حد، لكنّها اضطرّت في نهاية 1920، بعد تلقي رأس المال الغربي للطمة شديدة، على الانسحاب والإقرار بسيطرة الجيش الأحمر على كامل الأرض الروسية.
«انظر الجزء الثاني من المقال: إنقاذ المضاربين والفشل بإجبار السوفييت على إنقاذهم»
مصدر الجزئين: Russia – Origin and consequences of the debt repudiation of February 10, 1918