أمريكا نموذجاً لفشل الكهرباء «الليبرالية» أمام طوارئ الطبيعة المُتوقَّعة
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

أمريكا نموذجاً لفشل الكهرباء «الليبرالية» أمام طوارئ الطبيعة المُتوقَّعة

«ينتظر المواطن الأمريكي كارلوس مانديز، من هيوستن، في طابورٍ لملء جرة غاز بروبان منزلية لتأمين شيء من الدفء لأنّ الكهرباء مقطوعة» – إنها واحدةٌ من صور حقيقية مشابهة تحدث في الولايات المتحدة اليوم، كما نشرتها وكالة أسوشييتد برس الأمريكية، الأربعاء، 17 شباط 2021، حيث انتظر الأمريكيون على الدور لأكثر من ساعة في الطقس الماطر والجليدي. وبقي الملايين في تكساس بلا كهرباء لأيام بعد تساقط ثلوج غزيرة، وارتفاع كبير للطلب لتدفئة المنازل وسط اضطراب وانقطاع التيار على نطاق واسع، وصل إلى 12 ساعة يومياً في بعض المناطق، ووفاة 25 أمريكياً، فضلاً عن تجمّد وتعطل شبكات مياه الشفة لدرجة أن السلطات طلبت من الناس غلي الماء المُخصَّص عادةً للغسيل، حتى يصلح شربه، وسط مخاوف من تأثيرات سلبية متعددة، بما فيها على القطاع الصحي وإبطاء حملة التلقيح ضد كورونا.

تتأثر العديد من مناطق العالَم هذه الأيام بمنخفض قطبي شمالي شديد البرودة، وثلوج وأمطار غزيرة، مما خلّف أضراراً مادية وبشرية تتفاوت شدّتها حسب مستوى الاستعداد لها، وخاصة في مجال توليد الطاقة وتحديداً الكهرباء.

غير أنّ انقطاعات الكهرباء في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في ولاية تكساس، والذي وصل إلى 12 ساعة في اليوم، ووفاة 25 شخصاً، ظاهرةٌ تستحق التوقف عندها، بوصفها نتيجةً تعيد التأكيد على إخفاقات الرأسمالية ونسختها الأخيرة الليبرالية الجديدة أو نموذج «إجماع واشنطن»، في تأمين الاحتياجات الأساسية لملايين الناس العاديّين والفقراء، حتى في المركز نفسه وبأوقات حاجة ماسّة كهذه، ناهيك عمّا هو معروف جيداً من نتائجها في الأطراف عبر عقود من الزمن. وذلك بسبب أنّ هذا النموذج ومنذ أواخر السبعينات تميّز بالإهمال المستمرّ للبنية التحتية والإنتاج الحقيقي عموماً، لمصلحة أرباح رأس المال المالي، وعلى حساب أيّ تنمية مستدامة وبعيدة المدى.

ونقلت وكالة أسوشييتد برس الأمريكية أخباراً وتحليلات مفصّلة عن الكوارث الكهربائية التي تحصل هناك ولا سيما في تكساس، حيث كشف المنخفض الجوي الشديد عن نقاط ضعف مريعة في نظام شبكة الكهرباء في الولاية.

رفض إد هيرز، الباحث في الطاقة بجامعة هيوستن، ما قاله دان وودفين، المسؤول في «مجلس موثوقية الطاقة في تكساس» ERCOT بأنّ حوادث التجمّد التي عطّلت آليات التوليد هذا الأسبوع كانت «غير متوقّعة»، رادّاً على مَن يتذرّعون بذلك بقوله: «هذا هراء، فكل ثماني إلى عشر سنوات لدينا فصول شتاء سيئة للغاية. هذه ليست مفاجأة».

ونوّهت الوكالة بأنّ المشكلات لم تقتصر على تكساس، وأنّ الأمريكيين في الولايات الأخرى في خطر أيضاً، فلقد فرضت خدمات الكهرباء من مينيسوتا إلى ميسيسيبي تقنيناً كهربائياً طارئاً قاطعةً التيار الكهربائي بشكلٍ دوّار على المناطق لتخفيف الضغط على الشبكات المتعثرة تحت الطلب المرتفع خلال الأيام القليلة الماضية. وقالت الوكالة بأنّ إمدادات الطاقة من جميع الأنواع تعطلت في البرد القارس والظروف الجليدية، بما فيها المحطات العاملة بالغاز الطبيعي، كما تعطلت بدرجة أقل عَنفات التوليد الريحية.

ويعيش أكثر من 100 مليون أمريكي في مناطق تخضع لتحذيرات الطقس الشتوي، ومن المتوقع أن يستمر انقطاع التيار الكهربائي في بعض أجزاء البلاد لعدة أيام. وقال مشغّلو الشبكة إن قطع التيار الكهربائي هو الملاذ الأخير عندما يتفوق الطلب على العرض ويهدد بإحداث انهيار أوسع لنظام الطاقة بأكمله. وقال جوشوا رودس، الباحث المشارك في قضايا الطاقة في جامعة تكساس: «النظام بأكمله غارق».

علماً بأنّه في كاليفورنيا مثلاً، كان انقطاع التيار الكهربائي قد سبق وأصبح بالفعل أمراً اعتيادياً في الصيف والخريف، من أجل تقليل فرص اندلاع حرائق الغابات المميتة. «لكن حقيقة أنَّ أكثر من 3 ملايين شخص من سكان تكساس الذين يرتجفون من البرد حتى العظام، قد فقدوا الكهرباء، في هذه الولاية الأمريكية التي تفتخر باستقلالها في مجال الطاقة، لَهُو أمرٌ يؤكد خطورة المشكلة التي تحدث في الولايات المتحدة بوتيرة متزايدة»، وفق تعبير الوكالة الأمريكية نفسها. وهو ما يدلّ على أنّ المشكلات كانت قائمة بالفعل وتتراكم عبر فترة طويلة نسبية من الزمن، بلا استعدادات كافية لطوارئ مثل المنخفض الجوي الحالي، والذي كان من الطبيعي أن يحتاج الناس فيه لاستهلاك وطلب أعلى عبر السخانات الكهربائية المنزلية، وصل لمستويات لا تُرى عادةً إلا في أيام الصيف الحارة عندما تعمل الملايين من مكيفات الهواء بطاقتها الكاملة.

فضلاً عن ذلك، أضافت الوكالة الأمريكية، أنه حتى عندما كان يقطع التيار الكهربائي في الولايات المتحدة، لم يكن مألوفاً أنْ تمضي مناطق فترة طويلة غير عادلة من دون كهرباء، على عكس ما يحدث هذا الأسبوع في تكساس، حيث تم تعتيم مناطق لمدة 12 ساعة أو أكثر رغم البرودة الشديدة، في حين تنعّمت مناطق أخرى في الولاية نفسها بالطاقة طوال الوقت بلا أيّ انقطاع.

وبحلول يوم الأربعاء، خرج عن الخدمة 46 ألف ميغا واط من الطاقة في جميع أنحاء تكساس، منها 28 ألف م.و. من الغاز الطبيعي والفحم والمحطات النووية، و18 ألف م.و. من الرياح والطاقة الشمسية، وفقًا لـ«مجلس موثوقية الكهرباء في تكساس»، الذي يدير الشبكة في الولاية.

وتبلغ الطاقة التوليدية في تكساس نحو 67 ألف ميغاواط في الشتاء مقارنة بنحو 86 ألف ميغاواط في الصيف. والفجوة بين العرض الشتوي والصيفي تتوافق مع عملية استراحة محطات الطاقة للصيانة خلال أشهر انخفاض الطلب.

لكن توجد دلائل تشير بأصابع الاتهام إلى جشع وطمع رأس المال الذي يستثمر في الكهرباء بوصفه مسؤولاً عن الطوارئ التي تعاني منها الولاية. حيث أشارت الوكالة نفسها إلى أنّ الاختلال المذهل بين عرض الطاقة وطلبها في تكساس أدى إلى ارتفاع الأسعار من حوالي 20 دولاراً لكل ميغاواط ساعيّ إلى 9000 دولار لكل ميغاواط ساعيّ في سوق الكهرباء بالجملة في الولاية! فيما يبدو بأنّ أصحاب مولدات الطاقة قد تجنّبوا الاستعداد والتحضير لطوارئ كهذه فلم يشتروا المزيد من الغاز الطبيعي للتشغيل مكتفين بدلاً من ذلك بإيقاف مولداتهم عن العمل! إضافة لذلك كان يفترض أن تقوم المحطات التي تعمل بالغاز وتوربينات الرياح بإجراءات حماية وصيانة معدّاتها لطقس الشتاء – الأمر الذي يتم بشكل روتيني في الولايات الشمالية الباردة – ولكن ما حدث هو أنه ورغم إصدار «مجموعة صناعة الكهرباء الوطنية» لإرشادات واضحة لفصل الشتاء لكي يتّبعها المشغّلون، لكن هذه الإرشادات بقيت «طوعية» تماماً ولم يتم إلزام المشغّلين بها، في محاباة واضحة لمصالحهم الربحية البحتة، نظراً لأنّ الاستعدادات تتطلب استثمارات باهظة الثمن في المعدات وغيرها من التدابير الضرورية. وهي ليست المرة الأولى التي يؤدي فيها هذا التقاعس بالجاهزية إلى مشكلات كهرباء في تكساس، إذ سبق أن حدث ذلك عام 2011 أيضاً ولكن بشدة أخف من الأزمة الحالية.

وأشارت الوكالة بأنّ ولاية تكساس قد صمّمت شبكتها بشكل منفصل إلى حد كبير عن باقي الولايات لتجنب الخضوع للتنظيم الفيدرالي، لكن الأزمة الحالية قد تؤدي إلى إعادة التفكير في استراتيجية عمل الولاية بمفردها، وربما تتعرّض لضغوط تطالبها بتأمين المزيد من محطات التوليد الاحتياطي لأوقات الذروة، وهي خطوة لطالما قاومت الولاية الإقدام عليها حتى الآن.

من زاوية أخرى، ألقت انقطاعات التيار الأمريكي الحالية الضوء على البعد العسكري والجيوسياسي، حيث إن تقوية المنشآت العسكرية الأمريكية ضد الكوارث الطبيعية المتفاقمة سيكلف تريليونات الدولارات، وفق ما قالت جوان فان ديرفورت، خبيرة المناخ السابقة في البنتاغون، موضحة بأنّ «ثمة عيونٌ في الخارج تبحث في ضعفنا وترى كيف نستجيب... هناك أعداء في الخارج سيستغلون ذلك بالتأكيد».

ومن جهة أخرى فإن نسبة المساهمة المنخفضة نسبياً للمصادر البديلة النظيفة في المزيج الطاقي الأمريكي هو أيضاً مؤشر إضافي على وجود نزعة جوهرية للرأسمالية بشكل عام معادية للتخلي عن الوقود الأحفوري، أو على الأقل معادية للتخلي عنه بالسرعة والآجال المتوافقة مع مستقبل مستدام للبشرية، الأمر الذي يجعل الرأسمالية تتحمّل المسؤولية الأساسية عن المشكلة المزمنة وتفاقماتها الطارئة.

ولا شك بأنّ الانتقال الكامل إلى طاقة نظيفة عملية صعبة وتدريجية نظراً للإرث الثقيل للاعتياد على الوقود الأحفوري، حتى في الصين ذات الاعتماد الطويل على الفحم، لكن تجدر الملاحظة أنه وبخلاف الإجماع والوحدة السياسية التي تشهدها الصين حول الخيار المحسوم بالانتقال بالنهاية نحو الطاقات البديلة النظيفة ودفن عصر الوقود الأحفوري، فإن الانقسام السياسي الحاد الذي تعاني منه الولايات المتحدة، يبدو أنّه سيكون عائقاً جدّياً أمام طموحات مشابهة. فرغم تعهُّد بايدن بتحديث شبكة الكهرباء الأمريكية لتكون خالية من التلوث الكربوني بحلول عام 2035 وعزمه إنفاق 2 ترليون دولار على استثمارات البنية التحتية للطاقة النظيفة على مدى 4 سنوات، غير أنّ سياسيين جمهوريين، بما في ذلك حاكم ولاية تكساس نفسه، جريج آبوت، يحاولون إلقاء اللوم على طاقة الرياح والطاقة الشمسية في حالات انقطاع التيار، في مفارقة جعلته عرضةً للسخرية والنقد، لأنّ محطات الطاقة الحرارية التقليدية  المعتمدة على الغاز الطبيعي – لا محطات الطاقة البديلة – هي التي تساهم بالقسط الأكبر من المزيج الطاقي في ولاية تكساس، كما أنّ معدّاتها هي التي تعرضت للمشكلات الأكبر.