حركة "فتح" بين خيارين
بقلم نقولا ناصر بقلم نقولا ناصر

حركة "فتح" بين خيارين

 (الشعب الفلسطيني يفضل على الأرجح نشر كل الغسيل القذر لقادته كطريقة وحيدة متبقية لإحالتهم إلى التقاعد إن لم يكن لمساءلتهم)

 بغض النظر عن صحة أو عدم صحة التحليلات التي تفسر سجال الفضائح الوطنية الدائر حاليا بين قيادات تاريخية لحركة "فتح" بكونه جزءا من حملة إعلامية في سباق مقبل بدأ مبكرا على الرئاسة الفلسطينية، فإن سجال فضائح الاتهامات الدائر حاليا بين قيادات تاريخية لحركة "فتح"، ما صح منها وما كان مجرد اتهامات بحاجة إلى التحقيق، يفرض على المؤتمر الحركي السابع المقبل أن يخصص جدول أعماله لبند واحد فقط يكون معيارا وحيدا لعضوية الحركة والعمل السياسي العام لأعضائها وهو: "من أين لك هذا"؟!

 

إن الاتهامات المتبادلة بالتعاون مح دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتآمر، وقتل الخصوم من الحركة وخارجها، ناهيك عن الاتهامات المتبادلة بتسميم الرئيس الراحل ياسر عرفات في ما يكاد يرقى إلى تبرئة علنية للاحتلال ودولته من ارتكاب هذه الجريمة، وسرقة المال العام، والفساد هي اتهامات لا تسيء إلى أصحابها فقط، لكنها تطال تاريخ وسمعة الآلاف من شهداء الحركة وأسراها ومعوقيها ومناضليها، فهؤلاء كانوا ضحايا الفساد والفاسدين في حركتهم قبل بقية أبناء شعبهم، ولأن هؤلاء مثلهم مثل أندادهم من الفصائل الوطنية الأخرى ليسوا ملكا لفصائلهم بل لقضية شعبهم وتاريخ وطنهم، فإن الإساءة تطال الشعب الفلسطيني بكامله.

 ربما لهذا السبب وجه القيادي الفتحاوي فاروق القدومي مناشدته لوقف هذا السجال ومعالجة الاتهامات المتبادلة فيه وراء أبواب مغلقة، غير أن الشعب الفلسطيني الذي يعتقد (93.2%) منه بوجود المحسوبية ومحاباة الأقارب في القطاع العام، كما أعلنت رئيسة الجهاز المركزي للإحصاء السيدة علا عوض برام الله في الثاني عشر من أيلول / سبتمبر الماضي، يفضل على الأرجح نشر كل الغسيل القذر لقادته كطريقة وحيدة متبقية لإحالتهم إلى التقاعد إن لم يكن لمساءلتهم.

 وبما أن "فتح" هي التي تقود السلطة والمنظمة فإن الاتهامات تطالها بصفة رئيسية، ولم تعد مسلسلات الفضائح للاصطراع بين قياداتها تترك لها سوى واحد من خيارين، إما أن تعفي نفسها من مسؤولية القيادة وذلك أكرم للآلاف من شهدائها وأسراها ومناضليها وإما أن تصوب أوضاعها في أسرع وقت ممكن، ونقطة البداية للخيار الثاني هي اعتماد بند "من أين لك هذا" كبند وحيد على جدول أعمال مؤتمرها السابع المقبل كشرط مسبق لعضويتها.

 وسجال الاتهامات المحتدم الآن لا علاقة له بأي خلاف سياسي لكنه يسلط الضوء على انقسام على المصالح والسلطة أقدم وأعمق من الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس، انقسام كان ينخر حركة "فتح" سياسيا وتنظيميا وفكريا ومنهجا خصوصا بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" سيئة الصيت وطنيا، وكانت أطراف هذا الانقسام تغطي على صراعاتها بتسعير الخلافات مع حركة حماس من جهة وبالاستقواء بالاحتلال وراعيه الأميركي على حماس وعلى بعضها البعض من جهة أخرى، كما يتضح من تفاصيل السجال الفضيحة.

 غير أن الأهم هو أن هذا السجال يسلط الضوء على سبب رئيسي من أسباب الوضع الاقتصادي المتدهور للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وللأزمة المالية المزمنة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فالاتهامات المتبادلة بالفساد وسرقة المال العام لا تتحدث عن ملايين بل عن مليارات من الدولارات الأميركية.

 بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لتوقيع اتفاق أوسلو، قال مدير منظمة "أوكسفام" الدولية في فلسطين، نيشانت باندي، إن "حياة ملايين الفلسطينيين هي الان أسوأ مما كانت عليه قبل عشرين سنة". وفي تقرير لها بالمناسبة ذاتها قالت المنظمة إن العشرين سنة المنصرمة كانت "فرصة ضائعة" لم تحسن أحوال الفلسطينيين لا اقتصاديا ولا سياسيا.

إن التقرير الذي نشره صندوق النقد الدولي عشية اجتماع لجنة المانحين ل"السلطة الفلسطينية" بنيويورك في الثالث والعشرين من أيلول / سبتمبر الماضي، وكذلك تقرير البنك الدولي الذي نشر في الثامن من الشهر التالي أكدا "تدهور الأوضاع الاقتصادية" و"بخاصة في الضفة الغربية" وأن معدل البطالة يبلغ ضعفي وثلاثة اضعاف معدل البطالة العالمي في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي، وأن تقديم "الخدمات العامة الأساسية قد تقلص تدريجيا"، ليخلص تقرير البنك الدولي إلى القول إن "نموذج النمو هذا قد أثبت أنه غير مستدام"، متجاهلا أن في استنتاجه هذا إدانة ذاتية كون البنك كان يشرف على مالية السلطة طوال العشرين عاما الماضية.

 وسجال الفضائح الحالي يدور بين قياديين أحدهما رئيس لدولة فلسطين والسلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح هو محمود عباس والآخر كان رئيسا لمجلس الأمن القومي ووزيرا في السلطة وعضوا منتخبا في المجلس التشريعي وفي لجنة فتح المركزية هو محمد دحلان، وقد أحال الأول الثاني إلى المحاكم الفلسطينية ونجح الثاني في الحصول على إذن من مجلس الأمن الدولي لرفع دعوى ضد الأول في محكمة العدل الدولية بلاهاي يتهم فيها "السلطة الفلسطينية" التي كان طوال عشرين سنة من أعمدتها ب"الفساد على نطاق واسع".

 لذلك لا يمكن المرور على هذا السجال مرور الكرام، وعدم توثيق الاتهامات الواردة فيه والتحقيق فيها والبناء على النتائج تنظيميا وسياسيا وقضائيا.

 ولم يكن هذا هو سجال الفضائح الأول الذي انفجر فصله الأول عام 2010، فقد سبقه في سنة 2012 سجال مماثل بين الرئيس عباس وبين محمد رشيد (خالد سلام) المستشار الاقتصادي والمؤتمن المالي السابق للراحل عرفات الذي قال عنه رفيق النتشة رئيس لجنة مكافحة الفساد الفلسطينية إنه جاء إلى "الثورة الفلسطينية" لا يملك شروى نقير ليصبح "صاحب ملايين"، وترافق ذاك السجال مع توجيه اتهامات بالفساد لوزير للمالية ومدير عام سابق للوزارة ووزير للزراعة.  

 إنها لمفارقة مفجعة أن يكون المتهمان دحلان ورشيد، اللذان يملكان الآن مصالح تجارية بالملايين في عديد من الدول العربية والأجنبية، ضمن خمسة قياديين أنيطت بهم مهمة إدارة السلطة الفلسطينية أثناء محاصرة الاحتلال للراحل عرفات عام 2002، في ترشيح غير رسمي لهما لخلافته في حال وفاته.

 ولم يكن هذا السجال أول مؤشر على أرفع مستوى إلى تفشي الفساد على مستوى قيادي، ففي سنة 1998 انتشرت فضيحتا سرقة (160) مليون دولار أميركي و(20) مليون دولار من صندوق تقاعد الموظفين والشركة الفلسطينية للرهن العقاري على التوالي في قطاع غزة، ثم فضيحة المعابر الفلسطينية في القطاع التي كانت عائداتها توضع في حساب شخصي لمسؤول أمني، بينما كان تقاضي مستخدمي أحد الأجهزة الأمنية راتبين من ميزانية السلطة فسادا استمر حتى أوقفه رئيس الوزراء السابق سلام فياض.

 وفي تقرير لها باللغة الإنكليزية نشر في كانون الأول / ديسمبر الماضي استعرضت الباحثة سوسن الرمحي تقريرا للاتحاد الأوروبي تحدث عن "ضياع" حوالي ملياري يورو من المعونات المقدمة بين عامي 2008-2012، وفي تشرين الأول / أكتوبر الماضي اقتبست الصنداي تايمز البريطانية من تقرير للمجلس الأوروبي لمدققي الحسابات في لوكسمبورغ أن ثلاث مليارات دولار من المعونات الأوروبية "للفلسطينيين قد يكون أسيء إنفاقها أو تم هدرها أو ضاعت للفساد"، وعرضت الرمحي تقريرا للبنك الدولي نشر في تشرين الثاني / أكتوبر من العام الماضي لاحظ تحويل (900) مليون دولار إلى "طرف غير معروف" بين عامي 1995-2000، وتحقيقا لمفوضية مكافحة الفساد الأوروبية في تحويل أموال المعونات الأوروبية إلى "أطراف غير مستهدفة"، وإعلانا للنائب العام السابق أحمد المغني عام 2006 عن التحقيق في (50) قضية اختلاس لما يزيد على (700) مليون دولار متهم فيها مسؤولون كبار في السلطة ومنظمة التحرير، وتقريرا عن الفساد لمنظمة الشفافية الدولية جاء فيه أن الفساد في القطاع الأمني"خطير" ما استدعى نفيا غاضبا من المتحدث باسم المؤسسة الأمنية اللواء عدنان الضميري اتهم في المنظمة بعدم الموضوعية وافتقاد المهنية، وتقريرا نشره الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" في الشهر الرابع من العام المنصرم أكد فيه استمرار الفساد في المؤسسات الرسمية الفلسطينية موصيا بإعادة النظر في كل هيكليتها.

 إنها قمة جبل جليد الفساد الطافية على السطح، وتزيد قيمتها على قيمة مديونية السلطة البالغة (4.8) مليار دولار حتى منتصف العام الماضي كما أعلن مؤخرا وزير المالية برام الله شكري بشارة.

كاتب عربي من فلسطين