فيما وراء «الفشل الأخلاقي» الذي حذَّرت منه «الصحة العالمية»

فيما وراء «الفشل الأخلاقي» الذي حذَّرت منه «الصحة العالمية»

أعلن مدير منظمة الصحة العالمية، منذ أيام قليلة، أنّ «العالم على شفا فشلٍ أخلاقي كارثي، وسوف يتم دفع ثمن هذا الفشل في الأرواح وسبل العيش في أفقر دول العالم». وانتقدَ «تطعيم البالغين الأصغر سناً والأكثر صحة في البلدان الغنية قبل العاملين الصحيين وكبار السن في البلدان الفقيرة». كما حذّر من أننا «نواجه الآن خطراً حقيقياً، يتمثّل بأنه حتى عندما تَجلب اللقاحات الأمل للبعض، فإنها تصبح لبنة أخرى في جدار عدم المساواة بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون».

جاءت هذه الكلمات لمدير المنظمة (تيدروس أدهانوم غيبريسوس)، في الثامن عشر من الشهر الجاري، ضمن الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه أمام الجلسة رقم 148 لهيئتها التنفيذية. هذا وتعوِّلُ المنظمة بشكلٍ كبير على إطار المبادرة العالَمية «للحصول على لقاح كوفيد-19» المعروفة اختصاراً بـ«كوفاكس» COVAX والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى «المساواة» بإيصال اللقاح إلى البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل بالتزامن مع وصوله إلى الدول الغنية. ومن بين أكثر من 180 بلداً منضمة إلى المبادرة حالياً، هناك 92 بلداً (من بينها سورية) على قائمة كوفاكس للبلدان غير الغنية المرشّحة لتلقي «الدعم» بالحصول على اللقاح.

وقد يوحي هذا لأول وهلة بأنها أشبه بمبادرة «خيريّة» أو «مجانية». ولكن بالحقيقة تتطلب المبادرة، حتى من الدول المرشحة للاستفادة، أن تؤمِّن حدوداً دنيا معيَّنة لضمان نجاح عملية التطعيم، مثل البنية التحتية الضرورية والكوادر الصحية والبشرية المؤهّلة، وكذلك فإنّ الحصول على اللقاح من كوفاكس يفترض أن يكون رخيصاً، لكنه ليس مجانياً، بل يتم، بالنسبة للدول الفقيرة والمتوسطة، بموجب عقد شراء «التزام تسويق مسبق» يسمى آلية AMC COVAX. وحسب تحالف اللقاح العالمي Gavi (أحد الرعاة الثلاثة لكوفاكس) فإنّ «البلدان ذات الدخل المرتفع المشاركة في هذه الخدمة، ستدفع تكلفة جرعات اللقاح التي تتلقاها هي فقط. أما الجرعات للاقتصادات ذات الدخل المنخفض فسيتم شراؤها من خلال خدمة كوفاكس أيضاً، ولكن سيتم دفع ثمنها عبر الآلية المالية المنفصلة لـ Gavi COVAX AMC، والتي سيتم تمويلها إلى حد كبير من خلال «المساعدة الإنمائية الرسمية» ODA. ومع ذلك، فمن المحتمل أن 92 دولة المؤهلة للمساعدة بالحصول على اللقاحات وفق آلية AMC قد تكون مطالبة أيضًا بالمساهمة ببعض تكاليف اللقاحات والتوصيل، بمبلغ يتراوح بين 1.6 إلى 2 دولار أمريكي لكل جرعة».

ومع أنّ فكرة التعاون العالمي لإنتاج وتوزيع اللقاح بحد ذاتها ضرورية وواعدة، لكنْ للأسف، سرعان ما يتبيّن بمزيد من الاطلاع على القيود ذات الطابع الرأسمالي الاحتكاري التي تحكم هذه المبادرة، وتكبّل آليات عملها (ومنها مثلاً رفض الشركات المنخرطة فيها التخلي عن «حقوق الملكية الفكرية» المرتبطة بالأرباح) أنّ الفكرة الصحيحة بالتعاون العالَمي يتمّ إفراغها من مضمونها ومفعولها، مما يُزيل دواعي التعجُّب أو الاستغراب من هذا «الفشل الأخلاقي» الذي يصفه السيد غيبريسوس.

هذا ويُفهَم من كلمة غيبريسوس، أنّ المشكلة الرئيسة التي يبدو أنها دفعته إلى دق ناقوس الخطر، تتمثّل في تزايد الصفقات الثنائية التي تبرمها أغنى وأضخم شركات اللقاحات مع البلدان الغنية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وعدة دول أوروبية، والتي تتضمن تعهدات بكميات كبيرة من منتوجها إلى تلك البلدان، وفي المقابل فإنّ هذه الشركات إمّا لم تنضمّ إلى مبادرة «كوفاكس» والمثال الأساسي هنا هو فايزر وبيونتك، أو أنّ الكميات التي تمّ التعهد بها من تلك التي انضمّت، قد لا تكفي لتحقيق هدف «الوصول المتزامن والمتساوي» الذي تعلنه المبادرة، والتي رقم استهدافها الحالي هو توزيع 2 مليار جرعة إلى 20% من سكان كل بلد في العالَم حتى نهاية 2021 على أن تشرع بذلك اعتباراً من الربع الأول من هذا العام. علماً بأنّ ذلك يهدف فقط إلى التخلّص مما سمّته «الطور الحاد من الوباء» حتى نهاية 2021. أي ليس القضاء التام على الوباء، الذي يبدو أنه قد يستمر حتى 2022.

وتضم مبادرة كوفاكس العالَمية حتى الآن «تسعة لقاحات مرشحة مدعومة من (التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة) المعروف اختصراً بـ CEPI، وهناك تسعة لقاحات أخرى مرشحة قيد التقييم، ومحادثات شراء جارية مع منتجين إضافيين لا يتلقون حالياً تمويل البحث والتطوير من صندوق كوفاكس». وقائمة اللقاحات التسعة المعتمدة هي: لقاحات موديرنا + إينوفو + نوفافاكس (الولايات المتحدة)، كيورفاك (ألمانيا)، لقاح معهد باستور/ميرك/ثيمس (فرنسا، أمريكا، النمسا)، لقاح أسترازينكا/أوكسفورد (بريطانيا)، ولقاح جامعة كوينزلاند (أستراليا)، ولقاحا جامعة هونغ كونغ + كلوفر (الصين).

وأول ما يلفت الانتباه هو غياب لقاحين شهيرين عن القائمة: اللقاح الروسي سبوتنيك V، ولقاح فايزر-بيونتك الأمريكي- الألماني. روسيا والولايات المتحدة ليستا عضوين في كوفاكس حتى الآن، ولكن لسببين مختلفين تماماً، سنفصّل فيهما أدناه.

بالنسبة للقاح الروسي، ورغم تأكيد رئيس صندوق الاستثمار المباشر، كيريل ديمترييف، في مقابلة مع موقع The Print الهندي في 1 كانون الأول 2020، على رغبة روسيا بالحصول من مبادرة كوفاكس على موافقة إدراج سبوتنيك V في قائمتها المعتمدة، ولكن يبدو أن التأخير حتى الآن هو من طرف إدارة المبادرة الدولية بالذات؛ والتي تدار من ثلاث جهات: منظمة الصحة العالمية WHO، ومبادرة تحالف اللقاحات العالمية Gavi، وتحالف ابتكارات التأهب للأوبئة CEPI.

ومن المعروف أنّ لعمالقة الصناعات الدوائية الغربية ورؤوس أموالها نفوذٌ وتمويلٌ كبيران في اثنتين من ثالوث إدارة «كوفاكس» هما Gavi وCEPI – فضلاً عن النفوذ في منظمة الصحة العالمية نفسها – وينعكس هذا جليّاً في شروط قبول انضمام لقاح معيّن إلى كوفاكس، حيث تفتتح الوثيقة الخاصة بذلك، والمنشورة من منظمة الصحة العالمية بالقول بأنّ كوفاكس «يجب عليها أن تأخذ بالاعتبار فقط، إمّا تلك المنتوجات المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمية للاستخدام الطارئ EUL أو التأهيل المسبق PQ أو في حالات استثنائية، ألا وهي المنتوجات التي تمت الموافقة عليها من هيئة تنظيمية صارمة SRA، بما في ذلك TGA الأسترالية، أو EU-EMA للاتحاد الأوروبي؛ أو الصحة الكندية، أو  UK-MHRAالبريطانية، أو Swissmedic السويسرية، أو منظمة الغذاء والدواء للولايات المتحدة الأمريكية FDA». وذلك في انحياز واضح يعطي الأفضلية لسلطات الترخيص الغربية.

ومن المعروف أنّ مطوري لقاح سبوتنيك V أرسلوا بالفعل وثائقهم إلى منظمة الصحة العالمية، من أجل أن الحصول على «رخصة الاستخدام الطارئ» EUL منذ 8 كانون الأول 2020 ولم تمنح المنظمة موافقتها على ذلك حتى الآن، بل يذكر تحديثها التنظيمي رقم 26 الصادر في 8–01–2021 بأنّها ما زالت في طور دراسة هذه الوثائق. ولكن مع ذلك لم يمنع هذا التأخير والاعتراف باللقاح الروسي، عدداً كبيراً من دول العالَم (فاقت 50 بلداً) من التقدم بطلبات للحصول على أكثر من 1.2 مليار جرعة منه، وفق ما أعلنه ديمترييف.

بالمقابل، بالنسبة للقاح فايزر-بيونتك، فإن صانعتَيه لم تنضمّا بعد، حتى الآن، إلى المبادرة الدولية «كوفاكس»، رغمَ أنّ أوّل ترخيص لاستخدام طارئ للقاحٍ مضادٍّ لكوفيد-19 تمنحه منظمة الصحة العالمية، كان تحديداً من نصيب لقاحهما المشترك، والذي منحته ترخيصها الطارئ EUL في آخر يوم من العام الماضي 2020. وبالتالي ربما يكون جزء من تفسير ناقوس الخطر الذي دقّه مدير الصحة العالَمية، أو بعضُ مسؤوليها على الأقل، ناجماً عن تلكّؤَ انضمام لقاح فايزر إلى «كوفاكس» رغم التسهيلات الممنوحة له بذلك، مما يمكن اعتباره نوعاً من «الطعنة في الظهر» للمنظمة الدولية. إذْ لم يبدر عن الشركتَين، لا قبل الترخيص ولا بعده، إشارات برغبة جدية بالانضمام إلى كوفاكس. بل أقصى ما يمكن العثور عليه على الموقع الرسمي لشركة Pfizer هو عبارات بعيدة عن الالتزام، مثل قولهم: «بالإضافة إلى الاتفاقيات مع الحكومات، أعربت فايزر وبيونتيك عن الاهتمام بإمكانية تزويد خدمة كوفاكس باللقاح». ورغم أنّ الإدارة الأمريكية الجديدة بزعامة بايدن، عبّرت يوم أمس الخميس، من خلال كبير مستشاريها الطبيين، أنطوني فاوتشي، إضافة لاستئناف التمويل الأمريكي للمنظمة، عن عزمها الانضمام إلى مبادرة كوفاكس، لكن من غير الواضح بَعدُ ماذا يعني انضمام الحكومة الأمريكية للمبادرة، وهل يرتّب ذلك أيّ التزام على شركات الأدوية العملاقة الخاصة التي ليست «منظمات حكومية» ولا «قومية»، بل «عابرة للقوميات»؟

ومن المؤشرات على غياب النوايا الجدية لدى فايزر بالمشاركة بمبادرة المساواة في توزيع اللقاح هذه، كتب موقع devex المهتم بقضايا «التنمية» ومقرّه واشنطن، تقريراً في 10 تشرين الثاني 2020 يقول فيه «تواصلنا مع فايزر لنسألهم عن خطط التزامهم بكوفاكس، ولكن لم نحصل منهم على جواب». كما نقل الموقع نفسه عن كبير المستشارين في فرع منظمة «أوكسفام» في أمريكا، نيكو لويزياني، تصريحه بأنّ أيّاً من هاتين الشركتَين لم تقدِّم التزاماً علنياً بأن تتشارَكا مع أيّ طرف ثالث، لا بالمعرفةَ العلمية، ولا التكنولوجيا، ولا الملكية الفكرية، ولا البيانات اللازمة، لتعزيز وتسريع تأمين الإمدادات من اللقاح والمساواة في تقديمها، ولا في تخفيض سعرِ اللقاح. وأضاف بأنّ «اللقاح سوف يكون فعالاً بنسبة صفر بالمئة للناس العاجزين عن الحصول عليه أو دفع ثمنه».

وأخيراً، ما لم ينعكس ميزان القوى الدولي الجديد بما يكفي من الثقل لإصلاح المنظمات الدولية (ومنظمة الصحة العالمية ضمناً) في هذا العالَم الذي ما زال يقف رأساً على عقب، بحيث يعاد إليه شيء من التوازن أو يُجلَس على قدمَيه، سوف تبقى أفضل مبادرات «التعاون الدولي» عرضةً لـ«الفشل الأخلاقي» لأنّ الأخلاق السائدة هي أخلاق الطبقة السائدة، والطبقة السائدة عالمياً هي طغمة من البرجوازية الجشعة، التي لم يبقَ لها من دور تاريخي سوى عرقلة شفاء البشرية، وإطالة آلام ولادة العالَم الجديد، العالَم الأخلاقي والإنساني الحقيقي.